لها اليوم. ومن ثم ظل الفنانِ الأخيران دائماً في حالة بدائية لم يتعدياها إلى أطوار الفن السامية
ولقد تترعرع الفنون الأخرى كالعمارة والنحت والتصوير في ظلال الرعاية والمنحة من جانب الأمراء، كما حدث في عهد النهضة الإيطالية التي أنجبت رافائيل وميكلانجو ودافنسي وعشرات من أمثالهم، أما الأدب فهو أشد احتياجاً إلى الحرية وأسرع انحطاطاً وركوداً في ظلال الاستبداد، فأن الملكية المسّتبدة إذا سخرته لأغراضها وسيرته في ركابها حَمَلَتْه على إخفات الحق وإغفال الصدق ونسيان رسالته؛ ولهذا ازدهر الأدب في إنجلترا أكثر من ازدهار غيره من الفنون التي اقتبسها الإنجليز عن أهل القارة، حتى بارى الإنجليز غيرهم في الآداب وبذوهم؛ فقد ألفى الأدب في إنجلترا من حرية الفكر والتعبير أكثر مما ألفى في غيرها. ولنفس السبب ازدهر الأدب في المدن الإغريقية، على حين كان رقيه في روما الملكية قصير العمر
لم يُسخِّر الأدب الإنجليزي نفسه لتمليق الأمراء والكبراء، كما سخَّر الأدب العربي نفسه، ولم يصرفه طلب رضاهم عن طلب رضى الفن الصحيح، وإن كان بعض رجاله - منذ عهد شكسبير - قد تزلفوا إلى سلطان آخر غير سلطان الحاكمين، فطلبوا رضى الجمهور من رادة المسارح وقراء الكتب، ولو بتضحية رضى الفن أحياناً. على أن ذك قلما كان؛ وأكثر الأدباء احتفظوا بسمو الأدب وأرستقراطيته، ولم يلبث انتشار التعليم أن وسع دائرة القراء الذين يقدرون الفن الصحيح ويتسامون عن الفضول؛ وانقسم الكتاب إلى فريق محافظ على سمو الأدب، فهم عماد الأدب السامي، وفريق ينشد إقبال العامة باللغو والهراء. ولم يحدث أن هبط الأدب جملة عن مرتبة الفن الصحيح المنزه الغرض
كذلك ربأ بالأدب الإنجليزي أن تركبه الصناعة وتغلبه على غرضه الصحيح، دوام تبصر رجاله في الآداب الكلاسية والأوربية المعاصرة، فكان معين تلك الآداب يجري في شرايينه من آن لآخر، فيجرد ما فَتَرَ فيها من دفعة الحياة، فكلما مر الأدب بطور ركود تغلب فيه الصناعة الفن الصحيح - كذلك الذي مر به في بعض القرن الثامن عشر - شعر الأدباء بعظيم الفرق بينه وبين الآداب الأخرى، فانتشلوه من وهدته
ومما ساعد على احتفاظ الأدب الإنجليزي بصبغته الفنية، وحماه الهبوط إلى درك الصناعة