من صدورهم، ويصعد القيء أسود من جوفهم، ثم أخذوا يموتون بالعشرات والمئات كل يوم، لم يبق لعاقل ما يفعله إلا أن ينتفض على رجليه، ويتجه إلى أقرب باب للمدينة ويسير قُدُماً غير لاوٍ عن يمين أو يسار حتى يخرج منها. ذلك أن عِزْريل ذا اليد الصفراء يحذق النفاذ من الحيطان، واستراق الخُطا على الأرض، ومباغتة الناس من وراء الأركان، حتى النار يجوس خلالها؛ وقد يحق عليه الموت، ولكنه لا يلبث أن يُبعث حيّا. ويقوم الناس لمطاردته وفيهم أحذق الأطباء، فبعد أن يخطئوا في مطاردته أكثر ما يستطيعون من أخطاء، يأتونها بأكثر ما في قلوبهم من هوس، يجدون هذا القاتل الفلاّت لا يزال في قتله قائماً؛ ثم يسأم القتل بغتة فيكفُّ عن الناس. ويجيئه هذا السأم دائماً في شمال أمريكا بمجيء الصقيع
هذا ما كان من علم الناس عن الحمى الصفراء إلى عام ١٩٠٠ وصاح فِنْلي عالياً ملء صدغيه:(أيها الناس إنكم تجهلون. أيها الناس إن الحمى الصفراء تأتي من بعوضة)، فذهبت صيحته كصرخة في واد، وارتد عليه صداها بالسخرية والهوان
- ٢ -
في عام ١٩٠٠ كانت الحال في مدينة هبانا أسوأ حال. فالحمى الصفراء كانت قتلت من الجنود الأمريكيين ألوفاً أكثر مما أسقط رصاص الأسبانيين، وكان المعهود في الأوبئة أنها تنزل اختياراً من طوائف الناس حيث الفقر والقذر. أما هذه الحمى فنزلت في أركان حرب الجنرال ليونارد وود فذهبت بثلث ضباطه، وضباط أركان الحرب، كما يعلم الحربيّون، رجال مصطّفون هم أكثر الجند نظافة، وأكبرهم حظاً في الحمية من الأمراض. وزأر الجنرال بأوامره فنزل رجاله على أهل هبانا غسلاً ودعكاً حتى أحالوا الكوبيّين من قوم في وسخهم سعداء إلى قوم في نظافتهم تعساء؛ وصنعوا كل ما يُصنع للمدينة، ولكن الوباء لم يتراجع، بل تزايد حتى بلغ حدّاً لم يبلغه في السنوات العشرين الماضية
عندئذ أبرقت هبانا إلى واشنطن وفي ٢٥ يونيو عام ١٩٠٠ جاء البكباشي ولْتَرْ ريد إلى كويمادوس في كوبا ومعه أمر (بأن يُعنى عناية خاصة بكل ماله صلة بأسباب الحمى الصفراء وبطرق منعها). وهذا أمر كبير، يزيده كبره كبراً إذا ذكرنا مَنْ هو ولتر ريد؛ هو أمر حاوله بستور من قبل! وأين ريدُ من بستور؟ بالطبع لم يكن ريد خلواً من المؤهلات،