فناقش ريد رجال بعثته، قال:(لو كان المكروب أصل هذه الحمى بمثل ما هو أصل الكوليرا والطاعون، إذن لأصاب الممرضات فجمعتهن الحمى)
وأخذ ريد بعد ذلك يلاحظ ألاعيب شتى تقوم بها هذه الحمى، فرآها تظهر في كيمادوس فجأة حيث لا مظنة لظهورها: جاءت رجلاً يسكن في منزل رقم ١٠٢ بشارع ديل، وإذا بها تنط من هذا الشارع فتنعطف إلى شارع الجنرال لي فتنزل بساكن به في منزل رقم ٢٠. ثم هي تنط ثالثة إلى الصف الآخر من هذا الشارع. وما يكن بين المصابين صلة ما، ولا التقى بعضهم ببعض أبداً
قال ريد:(كأني بهذا الحال يشير إلى أن شيئاً ينقل المرض عبر الهواء من دار إلى دار). وكانت هناك حيل غريبة أخرى تأتيها هذه الحمى درسها عنها كرتر الأمريكي: تصيب الحمى رجلاً في منزل، فقد يموت وقد يُشفى فيرحل عن المنزل، ثم يمضي على هذه الإصابة أسبوعان فلا يحدث جديد، ثم ينقضّ البلاء كالصاعقة، فإذا بنفر من أهل هذا البيت يصابون بها. قال ريد لرجاله:(كأني بمكروب من هذا البلاء يترّيث أسبوعين في بطن حشرة ليستكمل نموّه)، فلم يصدقوه ولكنهم كانوا جنوداً طائعين
قال ريد:(وعلى هذا فقد يكون صواباً ما ارتآه فِنْلي عن البعوض، وعلى أساس فكرته فلنقم بالتجربة). فاعتزامه التجريب كان بناء على الأسباب السابقة والملاحظات السالفة، وعلى الأخص بناء على أن البعثة لم تدر ما تصنع بعد الذي صنعته
وكان القول بالتجريب قولاً هيّناً. ولكن كيف يكون البدء فيه، والمعروف الثابت أن الحمى الصفراء لا يمكن إعطاؤها للحيوانات، حتى القردة وهي أقرب إلى الإنسان خلْقاً لا تأخذها. ولكن لإثبات أن البعوض ينقل الحمى لا بد من حيوانات للتجريب، وإذن لم يبقى إلا أن تكون هذه الحيوانات آدمية. ولكن أيكون معنى هذه إعطاء هذه الحمى عمداً لبعض الناس! إن الإحصاءات دلّت على أن الوافدة إذا حلّت فقد يموت من المصابين ثمانون وخمسة من مائة، أو قد يبلغون خمسين، وعلى أية حال لا يقل الموتى عن عشرين في المائة. إذن فإعطاء الحمى عمداً لبني آدم قتل للأنفس التي حرّمها الله! ولكن هنا تتدخل شدة أخلاق ريد وصلابته لتلعب دورها الكبير. وكان ريد رجلاً لا شائبة في خلقه، ولا عائبة في ذمته، وكان مؤمناً، وبالرغم من اعتداله كان الرجل الذي اصطفاه الله لخدمة أهل بني هذه