الحمى. وخرجت الجنود من المستشفى متلاحقة وهي أجساد هامدة
خابت البعثة خيبة كاملة فيما ارتجت، ولكن من هذه الخيبة كان النجاح. فهذه إحدى خصائص هذه الصناعة صناعة المكروب. وهذا هو الأسلوب الذي يدرجُ عليه قُنّاصه ليجدوا منه مثل الذي وجدوا. وجد إسميث ما وجد من القُرَاد لأنه آمن بالذي قال الفلاحون. ووجد رونالد رُس ما وجد مما يفعل البعوض الأشهب لان بتريك منسون دّله عليه. وكشف جراسي ما كشف عن بعوضة الملاريا بدافع من وطنيته. وهذا ريدُ يخيب في أول خطوة يخطوها، وقد يقول كل أحد إنها أهم خطوة يخطوها، فماذا هو صانعه! لا شيء. فلم يبق لديه ما يصنعه. وإذن توّفر لديه الوقت الكافي ليفْرُغ إلى نفسه ويُفكر ويُصغي إلى صوت ذاك المغفل القديم ذي النظريات، صوت الدكتور كارلوس فنلي يصيح:(أيها الناس إنكم تجهلون! إن الحمى الصفراء تأتي من بعوضة!)
وخف رجال البعثة إلى هذا الرجل المأفون الذي ضحك منه كل سن، وصُمَّت دونه كل أذن. فتلقاهم هذا الشيخ بالسرور والترحاب وأخذ يفسر لهم نظريته، ويذكر لهم أسباباً غامضة إلا أنها مبدعة جميلة حدت به إلى اتهام البعوض في نقل أسباب الحمى الصفراء. وأطلعهم على نتائج تجارب أجراها هي بئست التجارب لا تقنع أحداً. وأعطاهم بعض بيض أسود اللون مستطيل كالإصبع وقال لهم:(هذا بيض المجرم). فأخذ ريد البيض وأعطاه إلى لازار؛ وكان هذا في إيطاليا من قديم فعرف هناك بعض الشيء عن البعوض. فأخذه لازار ووضعه في مكان دافئ فانفس عن دُويدة انقلبت إلى بعوضة صغيرة غاية في الحسن كأنما شُدَّت على ظهرها أوتار من فضة فتراءى كالقيثار
خاب ريد، ولا شك في هذا. ولكن إلى جانب إقرارنا له بالخيبة، يجب أن نُقرّ له بقوة الملاحظة الحادة، وبكثير من التمييز وحسن التبصر في الامور، وستعلم فوق هذا انه كان كبير البخت محظوظاً. ومن ملاحظته وهو في غمرة من إخفاقه أن رأى حالات للمرض ثقيلة فظيعة، احمرّت فيها عيون المرضى كأنما صعد الدم متدفعاً فيها، وأصفرت صدورهم فصارت كأنها الذهب وأخذوا يفوقون ويتهوعون إنذاراً بالسوء. ثم رأى الممرضات يجُسن خلال هذه الحالات وينلْن منها ويتلوثن بها، ولكنهن بالرغم من ذلك لم تجئهن الحمى الصفراء أبداً