تكاليفها اليومية السخيفة - كما ينعتها سبينوزا فيرى أن يقبل عليها، ويضرب مع الضاربين فيها - إن أراد أن يعيش - فالكواكب ليست أرغفة، والسماء لا تمطر بقلا. . . وهكذا ترغمه الحياة على أن يصانعها ويصانع معها الأحياء. . .
. . . ولكن هل انتهى بينه وبينها الخلاف؟ وهل أصبح هو وبنيها على أتم وفاق، يوم علم أن هذا الأدب الذي يدلُّ به ليس له كبير فضل، وأن هذا الخلود لا يعني شيئاً؟ لقد خلدت في الدنيا بغلة أبي دلامة، وحمار الرشيد. أم أن فهمه للدنيا على هذا النحو الجديد، يعني بداية معركة جديدة حامية، ولكنها تحرق الأديب قبل أن تحرق غيره. . أظن أن كثيرين يوافقونني على أن هذه بداية معركة لا نهاية؛ فالحياة لم تلق من هؤلاء الذين يناصبونها العداء طول حياتهم مثلما لقيت من هذه الطائفة من الأدباء الذين يضربون في زحمتها، ويسايرون مواكبها، على أن يخرجوا لها ألسنتهم هزؤاً، كلما آنسوا منها غفلة، وليفضحوا سرائرها في كل حين. . .
لم تنته المعركة بعد، فليست قضية الخلود هي كل الخلاف بين الأديب والأحياء. فكيفما جارى الأديب الناس في فهمهم للحياة فلا مشاحة في أنه يفهم الحياة على وجهة تختلف عن الوجهة التي يفهمها عليها الأحياء، إذ أن الأمر لا يتعلق باختياره؛ وقد يحب هو أن يجاريهم في كل شيء، ولكن ما حيلته في هذه الأعصاب التي ركبت على شكلٍ يختلف عما ركبت عليه أعصاب الناس - أحسن منهم أو دونهم هذا لا يعنينا - إنها مرهفة دقيقة، مستوفزة، تفعل بها الإشارة الغامضة ما لا تفعله بغيرها العبارة الصريحة، كيف يحب؟ وكيف يكره؟ وكيف يجنُّ بالحسن، وتفعل به الزهرة الغضة أو الذابلة؟ هذه أشياءٌ تفسيرها عند هذه الأعصاب
وشيء آخر يباعده عنهم، ويمد في شقة الخلاف، هو أين يعيش الأديب، وما هي دنياه؟؟ لا نحب أن نكتب خيالاً، إن إدمان مطالعته في نماذج الجمال والأدب، ولد في نفسه حباً للجمال. إنه يعيش بهذا الجمال الذي يطالعه به الخيال، أكثر مما يعيش في دنيا الواقع. . . كما وإن إدمان دراسته للحياة والواقع فتح عينه على الجانب البشع منها. أليس في الحياة بشاعة؟ ومن لا يقول هذا مع الأديب، حتى عباد الحياة أنفسهم؟ إذن فهو يريد أن يتسامى في هذا الواقع ليوائم بينه وبين ما في نفسه من جمال، يود أن يرتفع بهذه الخلائق، يذيب