نفسه قطرة قطرة، ليرى الناس جمال الحق وعظمة الصدق ونبالة الوفاء، ولكن الحياة والواقع يحتاجان إلى نقائض هذه، فما هو إلا أن يشعر بالخيبة حتى يروح يحرق الأرم ويتلوى على نفسه؛ وبين الخيال، وركود الأحياء في دنيا الواقع، تختضب الأيام بدم الكاتب، فهو على مثل هذا وفاق بين الأديب ودنياه، على أننا لا نأسف - نحن النظارة - لذلك، فلو لم يغمس الأديب قلمه بدمه، ولو لم يقدم نفسه قرباناً للجمال والحق. . . لما عرفنا أين يقع الجمال والحق في هذه الدنيا. فلتدم هذه المعركة - وهي دائمة بفضل هذه الأعصاب الشاذة - ما برحت - وإن نحر فيها الأديب نفسه - تدنينا من الحق، ولو قيد شعرة. . . إذن فلا وفاق بين الأديب والأحياء. .؟ نعم ولو أصبحت هذه الدنيا وفاق حلم الأديب، ودنياه المثالية، فالخيال لا يزال يبدع والجمال في هذه النفوس لا يحد. . .
وما هذه المصانعة التي تبدو من جانب الأدباء للحياة في بعض الأحايين والتي يخيل إليهم فيها أنهم أصبحوا يتلقون الحياة كما يتلقاها الآخرون - (بلا تذمر ولا سخط) إلا مخادعة النفس، وإلهائها عن آلامها الرفيعة التي تحزُّ فيها؛ هي قطعة الحلوى نقدمها للطفل لنسكته عن الصراخ
كيف يكون على وفاق هذا السابق مع المقعد المتخلف؟ فالأدباء في كل أمة هم رواد النهضات. يشيرون إلى العالم البعيد المجهول الممتلئة به أفكارهم، الآخذ عليهم مسارب نفوسهم، وخفي أشواقهم. كلُّ نهضة كان يسبقها أديبٌ أو أكثر، يبشر أن فجر الحق قريبٌ ورائع، وأن هناك في ضمير الغيب دنيا أمتع من هذه وأحلى. . .
. .؛ والآن هل استطاع المازني - أن يلقى الحياة، كما يلقاها الغير، أبناؤها؟ أما هو فيكاد يقول نعم، أو قد قالها بالفعل، بعد أن أزاح من فكره - حب الولع بالخلود - والحمد لله. أما نحن جمهرة القراء فنقول لا، ونمدُّ بها أصواتنا
كيف يلقى الناس الحياة؟ إنهم ينسابون في غمارها، يندفعون في لجتها - كما تندفع أنت يا أستاذ بالذات - حذو القذة بالقذة، ولكن تمرُّ الشهور، وتتصرم السنون، وينتهي العمر، وهم لا يفطنون لذواتهم، ولا يعرفون عن هذا السرور شيئاً، كيف جاء، وكيف راح؟ تلك قضية لا دخل لهم فيها.
حسبهم انهم مسرورون وكفى؛ أما هؤلاء الذين يلقون أنفسهم بالسرور إلقاء، ثم يقفون عند