ذلك بياناً في تعريفه؛ غير أنه إذا وقع في الحب سمى غريباً فلا تكفيه التسمية، فيوصف مع التسمية بأنه غريب فلا يبلغ فيه الوصف، فيقع التعجب مع الوصف والتسمية من أنه شيء غريب؛ ثم تبقى وراء ذلك منزلة للإغراق في التعجب بين العاشق وبين نفسه؛ وهكذا يشعرون
فكل أسرار الحب من أسرار الروح ومن عالم الغيب، وكأن النبوة نبوتان: كبيرة وصغيرة، وعامة وخاصة. فإحداهما بالنفس العظيمة في الأنبياء، والأخرى بالقلب الرقيق في العشاق. وفي هذه من هذه شَبهٌ لوجود العظمة الروحية في كلتيهما غالبةً على المادة، مجرِّدةً من إنسان الطين إنساناً من النور، محركةً هذه الطبيعة الآدميةَ حركةً جديدة في السموّ، ذاهبةً بالمعرفة الإنسانية إلى ما هو الأحسن والأجمل، واضعةً مبدأ التجديد في كل شيء يمر بالنفس، منبعثةً بالأفراح من مصدرها العلوي السماوي
بيدَ أن في العشق أنبياءَ كذَبة؛ فإذا تسفَّل الحب في جلال، واستعلنت البهيمةُ في عظمة، وتجرد من إنسان الطين إنسان الحجر، وتحركت الطبيعة الآدمية حركة جديدة في السقوط، وذهبت المعرفة الإنسانية إلى ما هو الأقبح والأسوأ، وتجدد لكل شيء في النفس معنى فاسد، وانبعثت الأفراح من مصدرها السفلي - إذا وقع كل هذا من الحب فما عساه يكون؟
لا يكون إلا أن الشيطان يقلد النبوة الصغيرة في بعض العشاق كما يقلد النبوة الكبيرة في بعض الدجَّالين
هكذا قال صاحب القلب المسكين وقد تكلم عن الحب ونحن جالسان في الحديقة وكنا دخلناها ليجدّد عهداً بمجلسه فلعله يسكن بعض ما به؛ واستفاض كلامنا في وصف تلك العبهرَة الفتانة التي أحلَّته هذا المجال وبلغت به ما بلغت، وكان في رقةٍ لا رقة بعدها وفي حب لا نهاية وراءه لمحب. وخيل إلي أنه يرى الحديث عنها كأنه إحضارها بصورة ما
وأنفع ما في حديث العاشق عن حبه وألمه أن الكلام يخرجه من حالة الفكر، ويؤنسُ قلبه بالاتعاظ، ويخفف من حركة نفسه بحركة لسانه، ويوجه حواسه إلى الظاهر المتحرك، فتسلبه ألفاظه أكثر معانيه الوهمية، وتأتيه بالحقائق على قدرها في اللغة لا في النفس؛ وفي كل ذلك حيلة على النسيان، وتعلل إلى ساعة، وهو تدبير من الرحمة بالعاشقين في هذا البلاء الذي يسمى الفراق أو الهجر