سليقة المنطق الداخل للأشياء والتناسق الباطن أي القانون الذي يربط الشيء بالشيء. أي جمال للأهرام غير ذلك التناسق الهندسي الخفي وتلك القوانين المستترة التي قامت عليها تلك الكتلة من الأحجار! جمال عقلي داخلي. كذلك أسلوب الخالق لا يعني بالجمال الظاهر وحده في خلق الطبيعة. فأي جمال للثعبان والجعران؟ أن الجمال الظاهر نسبي لا يقدره غير الإنسان. إنما المنطق الداخليللأشياء هو كل جمالها الحقيقي. هذا المقياس المصري القديم للجمال ما احسبه قد أثر بعد في حياتنا الفكرية أو في أحكامنا الفنية. أما التيار العربي القديم فهو النقد الذي قوامه ذوق الحس. أي سليقة المنطق الظاهر والتناسق الخارجي. الجمال عند العرب هو الجمال الظاهر الذي يسر العين ويلذ الأذن. أنستطيع أن نتخيل العرب تبني الأهرام أو تقدر فيها جمالا؟ لقد جاء العرب مصر وتحدثوا بجمال نيلها وأرضها وسمائها ولم يروا في الأهرام ألا شيئا قد يحوي نقودا مخبوءة، أما بناؤه فشيء لا يحسب في الفن. إنما الحسن عند العرب حسن الهيئة قبل كل شيء. المساجد كالعرائس تكاد تخطر حسنا بزخارفها، زينة للناظرين. بغير هذا فلا عمارة ولا فن. الشعر رنين لذيذ، وخيال جميل، ومعان لطيفة، وألفاظ مختارة ظريفة، بغير هذا فلا شعر ولا فن. الجمال عند العرب جمال إنساني. والفن عندهم شيء صنعه الإنسان لنفسه وللذته. الفن العربي القديم فن إنساني دنيوي. والفن المصري القديم فن إلهي ديني. لهذا اختلفت المقاييس في الجمال بين الفنين. أحدهما يعنى بالتناسق الذي يروق الإنسان، والثاني يعنى بالتناسق الخفي بغير التفات إلى الإنسان. ولعل المقياس العربي القديم هو في مصر المنفرد حتى اليوم بالحكم في قضايا الشعر والأدب. ولعل اقرب مثل إلى الذاكرة ذلك الحكم الذي أصدره الدكتور على بيت للأستاذ العقاد:
هي كأس من كؤوس الخالدين ... لم يشبها المزج من ماء وطين، ألم يكن مقياس الدكتور في
التقدير ذلك الذوق الحسي وذلك المنطق الخارجي الذي يربط الألفاظ، فوجد اتصالا غير متسق بين الكؤوس والطين سمع له شيئاً كالطنين يشوب صفاء الرنين؟ هذا المقياس العربي ذو الإبرة الدقيقة عجيب في تسجيل كل انحراف عن منطق الألفاظ. إنما هنالك في اعتقادي منطق آخر مستتر أمره يعنى المقياس المصري. ترى لو أن الدكتور رجع إليه أما كان يحكم لبيت العقاد لا عليه؟ أما كان يرى فيه تناسقا داخليا محكما هو كل ما عنى بأدائه