إنهم يقولون بالتأويل، ولكنهم لا يتوسعون فيه توسع المعتزلة
ونظرية الفارابي في النبوة تناقض في رأيهم مناقضة صريحة طرق الوحي المسلم به في الكتاب والسنة ومما يؤسف له أن أبا الحسن الأشعري وهو من معاصري الفارابي لم يخلف لنا شيئاً يعتد به في هذا الصدد. إلا أن الغزالي وهو اكبر نصير للأشاعرة على الإطلاق، وفي النصف الأخير من القرن الخامس الهجري بوجه خاص، لم يغفل نظرية الفارابي في النبوة، وتحامل عليها كما تحامل على الآراء الفلسفية الأخرى، ولكنه في تحامله هذا لم يستطع أن يرد عليها رداً مقنعاً أو ينقضها بشكل واضح. على انه هو نفسه بالرغم من خصومته لها وتحامله عليها لم ينج من أثرها، وقال بآراء تقترب منها كل القرب؛ وخصومة الأفكار تختلف إلى حد ما عن خصومة الأشخاص، فقد تستطيع التبرؤ من كل ما يتصل بخصمك المادي مع انه يعز عليك أحياناً أن تنجو تماماً من سلطان فكرة تعارضها، ذلك لان النظريات والآراء بما فيها من قدر من الصواب يمكنها أن تؤثر في أصدقائها وأعدائها، بل وفي اشد الناس هجوماً عليها؛ ولا أدل على هذا مما نلاحظ في مسألتنا الحاضرة، فأن الغزالي يناقش في كتابه (تهافت الفلاسفة) نظرية النبوة الفارابية ملاحظاً أن النبي يستطيع الاتصال بالله مباشرة أو بواسطة ملك من الملائكة دون الحاجة إلى العقل الفعال أو قوة متخيلة خاصة أو أي فرض آخر من الفروض التي يفرضها الفلاسفة، ثم يعود في كتابه (المنقذ من الضلال) فيقرر أن النبوة أمر مسلم به نقلاً ومقبول عقلاً، ويكفي لتسليمها من الناحية العقلية أن نلاحظ إنها تشبه ظاهرة نفسية نعترف بها جميعاً، آلا وهي الأحلام والرؤى. وهاكم عبارته بنصها:(وقد قرب الله تعالى ذلك على خلقه أن أعطاهم أنموذجاً من خاصية النبوة وهو النوم، إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب إما صريحاً وإما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير).
ونحن في غنى عن أن نشير إلى أن هذه العبارة تحمل في ثناياها أفكاراً فارابية واضحة وبصرف النظر عما في موقف الغزالي من تناقض فان اعتراضه على نظرية الفارابي في النبوة لم يكن شديداً ولا قاطعاً. ولهذا لم يتردد في أن يعتنقها في مكان آخر محاولاً، كما صنع الفارابي، إدعامها على أساس من الفيض والإشراق. ولعل هذا هو الرأي الأخير الذي اطمأنت إليه نفسه، ولاسيما. والدلائل قائمة على أن المنقذ متأخر تأليفاً عن التهافت،