للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يجدر بنا أن نولي وجهنا شطر القرون الوسطى اليهودية والنصرانية لنبين ما إذا كانت هذه النظرية قد تمكنت من النفوذ إليها أم لا. وسنكتفي من بين مفكري اليهود بموسى بن ميمون الذي يعلن في صراحة تلمذته للفارابي وابن سينا. وسنشير بين المسيحيين إلى (ألبير لجراند) فقط الذي كثيراً ما ردد اسم الفارابي في مؤلفاته اللاتينية. فأما ابن ميمون فلا نظن أن واحداً من رجال الفلسفة المدرسية - اللهم إلا ابن سينا - قد أستمسك بنظرية النبوة الفارابية وعنى بها مثل عنايته، فقد وقف عليها في الجزء الثاني من كتابه (دلالة الحائرين) نحو مائة صفحة أو يزيد، وبذل جهده في التوفيق بينها وبين الديانة الموسوية وترجع الآراء المتعلقة بالنبوة في نظره إلى ثلاثة أقسام. فطائفة ترى أن النبي مجرد شخص اصطفاه الله من بين خلقه وكلفه بمهمة خاصة سواء أكان عالماً أم جاهلاً صغيراً أم كبيراً، فلا يشترط فيه أي شرط ما دام الله قد أختاره، اللهم إلا أن يكون حسن السلوك سامي الأخلاق؛ ويرى المشاؤون - ويعني بهم ابن ميمون فيما نعتقد الفارابي وابن سينا - أن النبوة تستلزم كمالاً في الطبيعة الإنسانية وسموا في المواهب العقلية والاستعدادات الفطرية، فليس لكل شخص إذن أن يكون نبياً، بل من اكتملت فيهم صفات نفسية وعقلية معينة. والرأي الأخير الذي ينحاز إليه الفيلسوف اليهودي هو أن النبي إنسان كامل من الناحية العقلية قد فضله الله واصطفاه على عباده الآخرين. ولا بد له من مخيلة قوية تمكنه من الاتصال بالعقل الفعال وتقفه على الأمور المستقلة كأنما هي أشياء محسوسة ملموسة. وعلى قدر ما تعظم المخيلة ويزيد اتصالها بالعالم العلوي تسمو الإلهامات النبوية وتتنوع، ومن هنا تفاوت الأنبياء فيما بينهم بتفاوت مخيلاتهم، وأختلف ما يوحي إليهم تبعاً لذلك. فقوة المخيلة إذن ذات اثر كبير في الكشف والإلهام وشرط أساسي في كل من يرقى إلى مرتبة النبوة. بيد انه يجب أن يضم النبي إلى مخيلته قوى عقلية عظيمة، لأن المخيلة لا تستطيع أن تصعد إلى درجة العقل الفعال إن لم يكن في معونتها قوى فكرية ممتازة. هذه الملاحظات على اختصارها تكفي للبرهنة على أن ابن ميمون اعتنق في إخلاص نظرية الفارابي في النبوة

وأما ألبير لجراند فقد أثرت فيه الآراء الفارابية عامة من نواح كثيرة. فهو يقول بنظرية في السعادة لا تختلف كثيراً عما ذهب إليه الفارابي، ويقرر إن الإنسان متى وصل إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>