عليها، وتدخله في حكم أشياء غيرها لتحكم عليه؛ وهي التي تميز لغته وأسلوبه لأنها تلتقط بمعانيها ألفاظها، وما تعطيه هو إلا لتعطي الناس منه، وكما خلق الكون من الإشعاع تضع الإشعاع في بيانه
ولابد من البيان في الطبائع الملهمة ليتسع به التصرّف، إذ الحقائق أسمى وأدق من أن تعرف بيقين الحاسة أو تنحصر في إدراكها. فلو حدَّت الحقيقة لما بقيت حقيقة، ولو تلبَّس الملائكة هذا اللحم والدم لبطل أن يكونوا ملائكة؛ ومن ثم فكثرة الصور البيانية الجميلة للحقيقة الجميلة، هي كل ما يمكن من طريقة تعريفها للإنسانية
وأيُّ بيان في خضرة الربيع عند الحيوان من أكل العشب إلا بيان الصورة الواحدة في معدته؟ غير أن صور الربيع في البيان الإنساني على اختلاف الأرض والأمم، تكاد بعدد أزهاره ويكاد الندى ينظرها كما ينظره
ولهذا ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى: كالإيمان والجمال والحب والخير والحق - ستبقى محتاجة في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان جديدة
وفي الكتَّاب الفضلاء باحثون مفكرون تأتي ألفاظهم ومعانيهم فنّاً عقلياً غايته صحة الأداء وسلامة النَّسق، ويندر البيان في كلامهم فيكون كوخز الخضرة في الشجرة اليابسة هنا وهنا؛ ولكن الفنَّ البياني يرتفع على ذلك بان غايته قوة ألداء مع الصحة، وسموَّ التعبير مع الدقة، وإبداع الصورة زائداً جمال الصورة؛ أولئك في الكتابة كالطير له جناح يجري به ويدفُّ ولا يطير، وهؤلاء كالطير الآخر له جناح يطير به ويجري، ولو كتب الفريقان في معنى واحد لرأيت المنطق في أحد الأسلوبين يقول: أنا هنا في معانٍ وألفاظ. والإلهام في الأسلوب الآخر يقول: آنا هنا في جلال وجمال وصورة وألوان
ودورة العبارة الفنية في نفس الكاتب البياني دورة خلق وتركيب، تخرج بها الألفاظ اكبر مما هي كأنها شبَّت في نفسه شباباً، وأقوى مما هي كأنما كسبت من روحه قوة، وأدلَّ مما هي كأنما زاد فيها بصناعته زيادة. فالكاتب العلميَّ تمر اللغة منه في ذاكرة وتخرج كما دخلت عليها طابع واضعيها؛ ولكنها من الكاتب البياني تمر في مصنع تخرج عليها طابعه هو. أولئك أزاحوا اللغة عن مرتبة سامية، وهؤلاء علوا بها إلى أسمى مراتبها؛ وأنت مع الأولين بالفكر، ولا شيء إلا الفكر والنظر والحكم؛ غير انك مع ذوي الحاسة البيانية لا