حاله لم يتبدل إلا الإنسان: كان الخليفة يمشي تحتي، ويخطر بين أساطيني في حلل المجد وأردية الجلال؛ إن أمر أطاعت الدنيا، وإن نادى لبى الدهر، وإن مال مالت الأرض؛ وكان الناس يطيفون بي أجلة أمجاداً، عباداً أذلاء لله، وملوكا أعزة على الناس. . فأصبحت وحيدة منعزلة، لا أرى إلا هذه الفئات من العامة المساكين الذين تعروا من كل جاه إلا جاه العبادة، ومجد إلا مجد الآخرة. . فمالي وللعام الراحل؟ وأغمضت عينيها، وعادت تحلم، ولم تكترث!
وتنبهت دجلة ونظرت، فلما رأته قالت: قد رأيت ألوفا مثله تمر في هذه الطريق فلم تعمل في الكون شيئاً، ولم تغير إلا الإنسان؛ كانت تقوم على شاطئ القصور الفخمة، تتوج هامها العظمة، ويحل أرجاءها الجلال، ويمثل في أبهائها المجد، ويقف على بابها التاريخ، يصدر عنها، ويكتب حديثها، وتبثق منها أشعة الحضارة والفن، وتسطع منها أنوار العلم والأدب، وتومض في شرفاتها وأروقتها العمائم التي كانت على أشرف رؤوس وأحفلها بالفضائل والعلوم. . . فلم يبق من هذا كله إلا أطلال، يريدون أن يطمسوا اليوم آثارها ويغطوا عليها بقبعة. . . ولكن ذلك لن يدوم؛ إن طريق الزمن لا يزال مسلوكا. . . ثم صمتت وعادت تجري كما كانت تجري ولم تكترث!
وأنصت القمر وأطل ينظر، فلما رأى العام الراحل قال: لقد رأيت ملايين مثله، وقد مللت مر السنين وكر العصور، فمالي وله؟ وعاد يفيض نوره على الكون ولم يكترث!
وبقيت وحدي!
بقيت وحيداً. . فنظرت في نفسي:
لقد صحبت سبعاً وعشرين قافلة من قوافل الزمان. . . فهل اقتربت من آمالي؟ هل دنوت من الغاية التي أسعى إليها في سفري؟
ثم سألت نفسي: ما هي الغاية التي تسعين إليها؟ أتسيرين إلى غير ما نهاية، كلما مر عام تعلقت به فسرت معه حتى يضيق بك عام من الأعوام فيقذف بك إلى وادي الموت؟ ألا تعلمين إلى أين المسير؟
ولم تكن النفس ترقب مثل هذا السؤال، فاضطربت اضطراباً شديداً، وكثرت فيها الآراء، واشتد بين أعضائها الخلاف، ثم انشقت انشقاقا، وانقسمت أحزاباً، وانتثرت نفوساً