لاحظ فيه معلموه نبوغا ظاهراً، فكانت دروسهم له أشبه بتعاريف أولية لأصول سير العمل، أما هو فقد نهج في اقصر وقت منهجا سار عليه وعرفت روحه فيه، وظل بعد مائة عام يؤثر في الفن الفلامنكي تأثيراً عميقاً إلى أقصى حد
شاءت المقادير لروبنز أن يسافر إلى إيطاليا سنة ١٦٠٠، وشاءت المقادير أن يلحق بخدمة أحد أمرائها الذي كان من كبار عشاق الفنون الجميلة في مدينة مانتوا، فشاهد روبنز لدى الأمير حيناً وبوساطته حيناً أخر أحسن ما أخرجته قرائح الفنانين الإيطاليين وغير الإيطاليين
لم يكن لروبنز إلا الانتقاد والتأمل، فكان في حالة من البؤس النفسي شبيهة بحال الفيلسوف المتصوف؛ لم يقنع بما رآه، ولم ير شيئاً عده كاملاً؛ ولذا فقد عمل مكملاً، وصل إلى ما صبت إليه نفسه، تلك النفس التي تميزت من نفوس المجموع بدقة التأمل وبالدرس. وبقوة الملاحظة وبالتغلغل في كنه المرئيات، وأخيراً بالقدرة اللانهائية على تفهم الجمال
وبقدر تفانيه في التصوير كان عاشقاً لسماع الموسيقى ولعزفها، كأنه يقول إن مصدر الفنون واحد، وإن الفنان الكامل لابد له من دراية بالفنون الأخرى لزيادة الاستمتاع بما في الحياة من مكنونات لا يصل إليها إلا العارف
تراه أيضاً ألمّ بأصول الكيمياء لرغبته في الوقوف على سر صناعة الألوان
سافر كثيرا، وتأمل كثيرا؛ لم يترك لحظة تمر دون النظر والدرس، باحثاً عن الجمال أياً كان نوعه، وحيثما كان وجوده. كان لرحلته إلى أسبانيا تأثير في نفسه لم يقل من اثر رحلته إلى إيطاليا التي استطاع أن يعرف الفن القديم والفن المعاصر أثناء إقامته بها
وتدل كراسات روبنز ومذكراته الخاصة على أنه كان كثير التدوين والتسجيل والنقل والاقتباس، لا للتقليد بل للإلمام، شأن العالم الجهبذ؛ فتراه ينقل قدماً لتمثال استماله، ووعيناً من صورة استهوته، وذراعا ورأساً من أخرى، فكان جباراً في اختياره عنيفاً في نقده
خلق روبنز فنا قائما بذاته ومدرسة عرفت باسمه، بعد أن شاهد الكثير من أعمال فناني إيطاليا، وتأثر إلى حد بعيد بميشيل أنجلو وروفائيل وتيتسيان وكراتسي، كما أن بعض لوحاته تمت بصلة إلى جيليو رومانو الذي شاهد صوره عندما أقام في مانتوا
أشبع نفسه الفنية، فعرج بعد عودته من إيطاليا على دراسة الألوان ودرسها درساً وافياً،