للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولكني لم اكف عن التفكير فيه، وقد أدرت عيني في شعوب البحر الأبيض فإذا أكثرها كأهل مصر، ليس لهم (غرام) أو (عشق) للريف أو ما يسمى (الطبيعة)، فالروم والطليان والفرنسيون والأسبان، كلهم على شاكلتنا: الحضري منهم يبقى في المدينة ولا ينشد الريف أو يحن إليه؛ والريفي في قريته، يندران تنزع نفسه إلى تركها أو التطواف بعيدا عنها. ولا نكران أن هجرة أبناء هذه البلاد إلى الأقطار الأخرى غير قليلة، وفي مصر وحدها منهم عشرات الألوف، أو مئاتها، ولكن الهجرة تجيء عن اضطرار لا عن رغبة، والباعث عليها الحاجة، فلا دخل لهذا فيما أقول عنهم من ضعف ولوعهم (بالطبيعة)

واكثر الأجانب هنا يتخذون مساكنهم في قلب المدينة ولا يبعدون ببيوتهم عن أماكن عملهم بعدا يكلفهم مشقة أو يجشمهم عناء ونفقة، ما خلا الإنجليز، فان الرجل منهم يكون عمله في شبرا، فيتخذ بيته في أطراف مصر الجديدة أو في الزمالك على النيل، أو في الجيزة على طريق الهرم، ولا يبالي ما يضيع من الوقت في الذهاب والإياب، ولا يحفل ما يكلفه هذا البعد من النفقة. وقلما يقضي يوم بطالة في بيته إلا إذا كان مريضا. وليس بالنادر أن ترى الواحد منهم يحمل في سيارته خيمة وطعاما وشرابا يكفيان أياما، وفراشا أيضاً للنوم والجلوس، وأدوات للعب، ويذهب بذلك كله إلى السويس مثلا؛ ولو شاء لأعفى نفسه من هذا العناء كله، فلن يعدم فندقا يبيت فيه، ولكنه يضرب خيمته على ساحل البحر أو في الصحراء ويقضى أياما ناعما بالعزلة والوحدة وبما حوله من وجوه الأرض أو الماء، ويروح يمشي بضعة فراسخ كل يوم. . . وقد يكون وحده، فلا يشعر بوحدة ولا تخطئه سكينة النفس، وقد يكون معه غيره، فلا تراه - فيما يبدو لك - شاعرا بأنس يفتقده في وحدته، فكأن انسه كله بالمحل ولا بالرفقة. . ومن المتع التي يحرص عليها أن يكون له بيت أو كوخ - سيان عنده - في مكان ريفي بعيد يذهب إليه كلما أوسعه أن يخلو من مشاغل العمل. فهو في هذا نسيج وحده. ولا يمنعه المطر أو الإعصار أن يخرج في ثياب السهرة ليتعشى ويرقص ويحيى الليل على اسعد حال، ولا يقعده البرد في بيته كما يقعدنا - حتى في بلاده التي لا اعرف اسخف منها جوا، ولا ابعد عن الاعتدال، فهو هناك كعهدنا به هنا

وآهل الشام على خلاف آهل مصر، فانهم كثيرو الخروج إلى الرياض والبساتين؛ حتى

<<  <  ج:
ص:  >  >>