وفي روايات هاردي تصوير لكل ذلك دقيق لا يباري دقة ونفاذ بصيرة؛ وهكذا كسب الأدب الفصيح كسبا جديدا من الأدب العامي
أما في العربية فكان نصيب الأدب العامي دائما الزراية والتجاهل؛ وكان أول ما يأخذ به المتأدب نفسه التخلص من شوائب العامية لفظا ومعنى وأسلوبا، وشر ما يوسم به لفظ انه عامي، أو معنى انه سوقي؛ وابعد ما يفكر فيه الأديب أن يخالط العامة أو الزراع ليأخذ عنهم ما يتحدثون فيه وما يتأدبون به، من قصص ممزوج بالخرافة، وغناء متسم بالسذاجة، أو يطوف في الأرض طلبا لذلك كما طاف سكوت وأمثاله في شعاب اسكتلندا؛ إنما كان أدباء العربية يشدون الرحال إلى البادية طلبا للفصيح من الكلام والأصيل من الأساليب، والمأثور من أقوال العرب يتخذ حجة في المناظرة، وأنموذجا في الإنشاء وقد عيب على بشار قوله في جارية:
ربابة ربة البيت ... تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات ... وديك حسن الصوت
لأنه تناول موضوعا بسيطا عاميا وتحدث في سذاجة لا تليق بالشعر الفصيح. وإنما كان الأدب العربي فيما ارتضى له أصحابه، واستن له نقاده، أدب بلاط يحفل بذكر الملوك لا السوقة، ونديم أرستقراط يشارك في حياة العلية ويشمخ عمن دونهم، ولا يرى في حياء الدهماء وحياً لقول، ولا موضوعا لتفكير، فلم يكن من شعراء العربية من يحتفي بوصف أشخاص قريته كما فعل جولد سميث في (القرية المهجورة) وصفاً كله حب وحرارة، ولا من يرثى أبناء القرية في مراقدهم الأخيرة، وهم الذين افنوا العمر كدا دون أن تسمع الدنيا بأسمائهم أو يصعدوا إلى المجد على أكتاف غيرهم أو دمائهم، كما فعل جراي في مرثيته
وقد اثر عن بعض شعراء العربية كابي نؤاس وأبى تمام، انهم كانوا يتلقفون أحيانا أقوال العامة فيصوغونها شعرا، كالذي رواه ابن الأثير من أن أبا تمام وصل من بعض قصيده إلى قوله:(وأحسنُ من نور يفتِّقه الصَّبا) وارتج عليه، حتى مر بالباب سائل يقول:(من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا)، فاكمل أبو تمام البيت:(بياض العطايا في سواد المطالب)، على أن ذلك كان نادرا ضئيل الأثر. أما الاحتفال للأدب العامي، ومحاولة الانتفاع به، والرغبة في جمعه، والعمل على تلقيح الأدب الفصيح بعناصر الحياة فيه، فذلك