لم يستفد الأدب العربي الفصيح من شقيقه العامي شيئا، مع انه كان أحوج كثيرا من الأدب الإنجليزي إلى تلك الاستفادة، بل لعل رفضه الاستفادة من أدب العامة كان من أسباب اضمحلاله وسقوطه: فقد أبى الأدب العربي إلا اعتزال أدب العامة بنفس الإصرار والشموخ الذين اعتزل بهما آداب الأمم الأخرى، وتعالى عليه تعاليه عليها؛ ورأى المسعودى وابن النديم نسخا من قصص ألف ليلة وليلة، التي بدأت تتجمع حولها آداب العامة فاستخفا بها وحقراها، ولم يخطر لهما أن بها مادة لعبقرية الأديب أو لقاحا للأدب. سخرا من الأقاصيص الشعبية في القرن الرابع الذي كانت الصنعة اللفظية فيه قد ركبت الأدب، والتقاليد قد كبلت المنظوم والمنثور، ولو التفت الأدباء إلى ذلك الأدب الشعبي الناشئ واستوحوه جديدا من القول، لربما شهد الأدب العربي نهضة جديدة وإحياء كالذي شهده الأدب الإنجليزي في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن الذي يليه
والحق أن الأدب العربي العامي قد احتوى من المواضيع الأدبية والأشكال الفنية ما أعوز الأدب الفصيح، بل انه احتوى من ذلك على ما هو أشبه بالأدب وانهض بوظيفته واقرب إلى التعبير عن الشعور. والحق أن الأدب الفصيح ليس بالترجمان الصادق المستقل للمجتمع العربي، ولا هو بالسجل الكامل لنتاج الذهن العربي وخلاصة النفس العربية في تعاقب العصور، والأدب العامي اصدق وأوفى منه في كل ذلك
فالأدب العامي حافل بآثار الخيال؛ مملوء برائع القصص، وهو ما يعوز الأدب العربي الفصيح منثوره ومنظومه؛ فالقصة الاجتماعية ضرب من الأدب لم يألفه أدباء العربية، والخيال الذي أولع به الشعراء واشتهر به البحتري خيال كاذب، إنما هو وهم ومغالطات صبيانية: من توهم أطياف أحبة لا وجود لهم، واختراع مواقف للوداع لا طائل تحتها؛ ولو فطن الأدباء لأخذوا بيد القصة فرفعوها من عاميتها إلى لغة الفكر المثقف والوضع المهذب، فأضافوا بذلك إلى الأدب فنا يجد فيه متحولا عن فنونه العتيقة
والأدب العامي حافل بضروب الأوزان والقوافي الشعرية المتداخلة، وهي الأشكال التي رفضها الأدب الفصيح وظل متمسكا دونها بالقصيدة الموحدة القافية، وأبعدها عن حظيرته فلجأت إلى حظيرة الأدب العامي؛ على أن تلك الموشحات التي راجت في الزجل دون