الشعر أدل على الرقي الأدبي واقدر على التعبير عن شتى المقاصد من القافية الموحدة، فتلك فائدة أخرى ما كان أحرى الأدب الفصيح أن يستفيدها من الأدب العامي، ولكن الأرجح أن ذيوع تلك التوشيحات في أدب العامة زاد الأدباء صدودا عنها فيما يحتفون به من أغراض القول
وأسباب هذا الجفاء الذي استحكم بين الأدبين الفصيح والعامي في العربية هي: روح المحافظة التي سادت الأدب الفصيح والتبجيل العظيم لآثار الأقدمين، والاعتداد الشديد بلغة الضاد التي هي لغة الكتاب المنزل والدولة؛ وهي عوامل نماها وقواها اعتزاز العرب في صدر الإسلام بقوميتهم وتعاليهم عمن عداهم من الشعوب، وحرص أبناء تلك الشعوب على التشبه بهم بحذق لغتهم وتقليد أساليبهم؛ كل ذلك جعل للفظ عند الأدباء التقديم على المعنى، فكل قول عدم اللفظ الفصيح هو عامي سوقي حقير لا قيمة له، وجعل لأساليب العرب الأقدمين مكانة رفيعة، فكل قول شذ عنها ناب مستهجن، وكل احتذاء لها مهما أرهقه التكلف وخرج به التقليد عن طور المعقول والمحسوس، فهو مقبول معدود في الأدب؛ هذا إلى ما تقدمت الإشارة إليه من تعلق الأدباء بأهداب الملكية والعلية ابتغاء النوال، مما نأى بجانبهم عن جانب العامة
فالأدب الفصيح استحال في حيز تلك التقاليد والمراسيم إلى قوالب متحجرة، وأوضاع متصلبة، غير حر الحركة ولا سهل التجديد ولا قابل لتأثير من الخارج، لا يتأثر إلا بماضيه، بتراث العرب الأفحاح الذين قصدوا القصائد ونسبوا وفخروا وهجوا وارتجلوا الخطب؛ وتلك حال إذا صار إليه الفن جمد وبعد عن الأمانة للحياة والتصوير لحقائقها. وشبيه بذلك ما صار إليه فن النحت وفن التصوير عند قدماء المصريين من جمود وزيغ عن الحقيقة، حين كبلتها الأوضاع والرموز الدينية
وقد اصبح لزاما على الأدب الفصيح وقد كبلته التقاليد بالقيود، وأحاطته الصناعة بالسدود، أن يترك التعبير الصحيح عن شعور المجتمع للأدب العامي، وذلك هو الذي تم دون أن يشعر رجاله، ودون أن يقلعوا عن كبريائهم وترفعهم عن الشعب. فظلوا في تقاليدهم الجامدة وبراعاتهم اللفظية سادرين، وقد نما الأدب الشعبي واتسع، وحوى من صادق المشاعر والعواطف، وجميل المحاورات والمناظر، ما أعوز الأدب الفصيح، وما قربه إلى نفوس