للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

طاغ

ولا أحتاج أن أقول إني في الحب كما تشاء ذاكرتي؛ فإذا استيقظت وتنبهت، ووسعها أن ترتب ما فيها، وتبرز ما يستحق الإبراز، وتؤخر ما التأخير أولى به، وتعرض الأمر علي عرضا يساعد على التدبر ولا يغري بالفرار والتماس النجاة. . . إذا فعلت ذاكرتي هذا فأني أستطيع أن أعرف أأنا عاشق أم خلي، ومن هي التي أحببتها، أو من هن اللواتي أحببتهن ثم نسيتهن؟ ولا غرابة إذن أن يكون حبي - حين أفطن إليه - بالجملة. أما إذا عجزت ذاكرتي عن هذا العرض فأني أمشي في الدنيا مستريح القلب من هم الحب وكربه، واثقاً من نعمة الخلو ومزية السلامة والنجاة

ولكن البلاء والداء العياء أن ذاكرتي تفاجئني بومضات التذكر حين تحسن اللجلجة في النسيان. . . وتصور أن تكون جالساً تناجي من تذكرت أنك تحبها. وأن تكون راغباً في ملاطفتها لتعوضها من الإساءة إليها بنسيان أمرها، فتروح تبثها هذا الحب وتناجيها بأعذب ما تستطيع من عبارات الشغف والهيام، وتؤكد لها أنك ما أحببت. . . كلا، ولن تحب سواها، وأن قلبك وقف عليها، وأن حبك لها خالد، وأن الدنيا تستطيع أن تعمر بمن شاءت من النساء الجميلات الفاتنات الساحرات؛ ولكنك أنت لن تكون لك عين ترى سواها، أو قلب يخفق لغيرها. . . وإنك لتسح بهذا الكلام وإذا بذاكرتك تصيح بك:

(حاسب. . . ماذا تقول؟. . . أتزعم أنك لا تحب سواها؟ يوه. . . أتراك نسيت تلك التي كنت تقسم لها مثل هذه الأيمان الغلاظ البارحة. . . البارحة فقط. . . في الساعة التاسعة. . . على شاطئ النيل. . . أو تلك التي دعوتها إلى الذهاب معك إلى الإسكندرية لأنك لا تطيق البعد عنها يوماً واحداً. . . أو الأخرى. . . أو. . . أو. . .)

وأرجو أن يكون القارئ منصفاً، وأن يقول لي كيف بالله يمكن أن يمضي المرء في الكلام الذي بدأه؟. . . أو كيف يستطيع أن يستحلي ما هو فيه؟. . . أو ماذا يبلغ من شعوره بالتنغيص في لحظة جميلة كالتي هو فيها؟. . . ثم أن هذه سماجة من الذاكرة. . . لماذا لا تنتظر حتى تنقضي اللحظة الحلوة، ويفوز المرء بالمتعة - متعة الجلسة والحديث والمناجاة وسرور المحبوبة بأنها محبوبة ثم بعد ذلك - بعد أن تنقضي الساعة التي هو فيها لا يبقى مانع من أن تذكره بما شاءت، وأن تعرض عليه الحقائق الثقيلة في غير أوانها

<<  <  ج:
ص:  >  >>