للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ظهرت بوادر كفايته النادرة. لقد امتاز تين لأول دخوله المدرسة بمقدرة على العمل مدهشة، وبجلد متين لا يقل إثارة للدهشة، وكان كثير التحصيل، كثير التعليق على ما يحصل، كثير التفكير فيه، مما جعل له على أصدقائه جميعاً نفوذاً معترفاً به، اعترافهم بفضله ومقدرته على الكتابة نظماً ونثراً في اللغتين الفرنسية واللاتينية. وبعد انتهاء دراسته الثانوية انتقل إلى مدرسة المعلمين ' وفيها قرأ افلاطون، وارسطو، ودرس الإنجليزية فبرع فيها وأتقن آدابها. وقد لاحظ عليه أساتذته مبالغته في الحرص على السلوك بالمنطق مسلكا رياضياً والوصول به دائما إلى قاعدة ثابتة على نحو ما يصل الرياضيون في مسائل الحساب والهندسة والجبر. وقد تنبأ له أساتذته بمستقبل باهر، وقالوا سيكون تين أستاذاً ممتازاً، بل سيكون أكثر من ذلك، وسيكون عالما من الطراز الأول، وسيكون شعاره شعار سبينوزا (يعيش ليفكر).

ومع ما عليه تين من رقة في الخلق عظيمة، ومن طباع غاية في الطيبة، كان لذهنه قوة جبارة لا تلين لا يستطيع ان يكون لأحد على تفكيره أي تأثير. وجماع ما يقال عن (تين) انه ذهنية جبارة منقطعة النظير!

كان تين أقوى أثراً في نشر الفلسفة الواقعية من صاحبها اغست كونت نفسه، وبرغم تثبيته قواعد هذه الفلسفة الوضعية في ذهن أهل عصره والعصور التي خلقته، قد فتح لها ميادين جديدة في الفن وفي الأدب وفي الشعر، وفي صور نشاط العقل الانساني، وفي النفس الإنسانية، مما جعل للعلم الوضعي وللفلسفة الوضعية من متانة الأركان ما لا يزال حتى اليوم وطيدا قويا غاية القوة، برغم موجات الروحية (والتيوزوفية) وغيرها مما سبق الحرب وشجعته الحرب ومما لا يستطيع أن يقاوم (حتى في الميادين الفلسفية البحتة) تيار العلم الجارف، الذي يدل الناس كل يوم على أن العلم إذا اخطأ في تقرير نتائج معينة، فهو وحده قمين بإصلاح هذا الخطأ من طريق الاستقراء والملاحظة والتجارب، وما يترتب على هذه من تبويب ينتهي إلى استنباط القوانين العلمية الصحيحة التي يمكن أن تكون أساسا لارتكاز الفلسفة الواقعية الصحيحة، فهذا الرجل الذي حاول، ونجح في محاولته، هدم الفلسفة الكلامية التي كان الأستاذ فيكتور كوزون عميدها في عصره، والذي حاول ونجح في أن يقر إلى جانب التفكير الواقعي المذهب الجبري وأن يطلق هذا المذهب على

<<  <  ج:
ص:  >  >>