للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

النمسان ويخضعه له، بمقدار ما تخضع له الأفلاك والموجودات كلها، هذا الرجل كان صاحب أسلوب في الكتابة له من البهر ما يسحرك كما لو كنت تستمع إلى ألحان أركسترا بيتهوفن! ولعل أبرع ما كتبه تين في الناحية الأدبية، هو ما كتبه في الوصف والسياحة، ولقد بلغت براعة الوصف فيهما مبلغا قل أن يجاريه فيه كاتب.

وليس فضل تين مقصوراً على فلسفته وأدبه فحسب! فهو إلى جانب ذلك مؤرخ من أكبر المؤرخين لم يقتصر على كتابة تاريخ بلاده، بل تناول عصر ما قبل الثورة، وتناول عصر الثورة والعصور التي بعدها، وتناول بحوثا أخرى في التاريخ القديم وفي التاريخ الحديث، تناولها بدقة في العبارة، ودقة في البحث، وقوة في الأسلوب، جعلت له كل هذه المكانة التي تسنم ذروتها في عصره، وكل هذا المجد الذي يشهد له به اليوم حتى ألد خصوم نظرياته. ورسائله في التاريخ وفي النقد جعلته منه نقادة معترفاً بنبوغه وبفضله، وقد أقامت له مذهبا في النقد يتسق ومذهبه في الأدب، وفي التاريخ، وفي الفلسفة، وفي كل ما تناوله من مباحث؛ والذي يقرأ كتابه (الفلاسفة الإنشائيون في القرن التاسع عشر) وكتبه (رسائل في النقد وفي التاريخ) يرى اتجاه مجهوده العقلي في السنوات الخصبة من حياته، ويرى المجهود الهائل الذي تناول به بحث اليونانيين القدماء وكتاب فرنسا وفلاسفتها وكتاب إنجلترا ومفكريها، تناول ذلك في دقة وإحاطة قل نظيرهما. يعرض أمامك فكرة كل كاتب وفلسفته وأسلوبه ويحلل ذلك ويرده للبيئة وللجنس اللذين نشأ الكاتب فيهما، ويدلك على ما يراه النقاد ويراه هو في الكاتب وفكرته من قوة ومن ضعف، ومن كمال ومن نقص. ومن دقة في بلوغ الغاية التي قصد إليه الكاتب، أو اضطراب في نهج السبيل إلى تلك الغاية، وهذه طريقته التي سار عليها في النقد، وهي الطريقة العلمية الصريحة التي لا تعرف الميل ولا المواربة، ولا تعرف مذاهب الشك والتردد، والتي تقفك من كل كاتب ومن كل موضوع على خلاصة الموضوع وعلى صورة واضحة من الكاتب على نحو ما رآه تين؛ أول أستاذ (لتين) أثر في تفكيره أعمق الآثار وهو (كوندياك)، وتين لا يفهم كيف ينسى في فرنسا منهج كوندياك الذي هو (أحد المثل العليا للذهن البشري) ويستبدل بفتات الاقتباس والمزج، ثم هو يأخذ على كوزين وتلاميذه قبل كل شيء انحلال المنطق، لأنهم يرون انهم فلاسفة، ولكنه يرى انهم خطباء يعنون بالأثر الذي يحدثونه اكثر مما يعنون بالحقائق التي

<<  <  ج:
ص:  >  >>