وجم غفير منهم عروة بن حزام وبن الدمينة وأبو صخر الهذلي وبن الطثرية
امتاز نسيب هذا العصر بخير ما يمتاز به النسيب: صدق شعور، وحرارة عاطفة، وجزالة نسج، وعفة مقال، وحسن بيان لمظاهر الحب وخفاياه وأحواله، وحسن وصف لجمال المحبوبة الجسمي دون إغفال لجمالها النفسي. ومن عجب أن جيلاً نبغ فيه من ذكر كان يصغي في نفس الوقت إلى الأخطل والفرزدق وجرير وهم يتشاتمون؛ ونبه شأن هؤلاء حتى كادوا أن يخملوا الأولين، مع أن جميلا وعروة وأمثالهما كانوا يترنمون بعواطف إنسانية نبيلة، والآخرين كانوا يتقاذفون بالأوضار! ومن بديع النسيب المتخلف عن هذا العصر قول قيس بن ذريح:
نهاري نهار الناس، حتى إذا دجا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
أفضّي نهاري بالأحاديث والمنى ... ويجمعني بالليل والهم جامع
وقول ابن الدمينة:
لك الله إني واصل ما وصلتني ... ومثن بما أوليتني ومثيب
وأخُذُ ما أعطيتِ عفواً وإنني ... لأزورُّ عما تكرهين هيوب
وإني لأستحييك حتى كأنما ... عليَّ بظهر الغيب منك رقيب
تصرم ذلك العصر تدريجياً، ودخل عصر الترف والمجون والملكية المطلقة ذات الأبهة، فلم يعد المجتمع يصلح للحب الصادق، ولا الأدب يتسع للتعبير الصادق عن الحب: فقد ضعفت الأخلاق وانتشرت المفاسد، واشتد تأثير الجواري في المجتمع. وتقلصت مكانة الحرائر وضرب عليهن حجاب الجهل. وفي ذلك الجو الخليع تفشو الغواية والشهوة، ولا يفشو الحب العذري الحار؛ فالحب الصادق لا يكون، والنسيب الرائع لا يزدهر، إلا حيث جمال وحيث عفة، كما قال العذري؛ أما حيث تقع الجارية من نفس الرجل فيشتريها بماله ويصيرها في عداد ممتلكاته، فلا يكون ذلك
وذهب عهد المغامرة والجلاد وتلاه عهد الشيخوخة والوهن وكفت الأمة العربية عن الحرب، وأقيم عليها المرتزقة من الترك والعجم، وخمدت العزائم، واستخذت النفوس تحت جبروت الملكية المطلقة وعمالها الغاشمين الذين أفقروا الأهلين بمفارمهم، فأنصرف الناس إلى طلب القوت وحرصوا على المادة؛ ولم يعد الحب إلا اسماً يذكر، وطيفاً يتوهم، وأنيناً