موصولاً وعويلا، وتصابياً كتصابي الشيوخ؛ أما صدق الشعور بالحب والتقلب في أحواله وأطواره، فقد انقضى بانقضاء شباب الأمة
أما الأدب فسرعان ما داخله التكلف في ظل الملكية ذات الصلات، وتوفر الشعراء على المديح؛ وبدل أن يبتكروا جديداً انصرفوا إلى معارضة معاني الأقدمين في المدح والنسيب. ومن ثم انقسم شعراء العصر العباسي فريقين: فريقاً انغمس في تيار الشهوات وملأ شعره بوصفها، كبشار وأبى نؤاس اللذين أوغلا في الباب الذي كان فتحه ابن أبي ربيعة في العصر السابق؛ وفريقاً كان أنقى صفحة وأعف طبعاً فلم يجر إلى ذلك المدى، ولكنه لم يودع شعره وصفاً صحيحا صادقاً لعواطفه وغرامه كذلك الذي توفر عليه جميل ومعاصروه، بل اكتفى بالنسيب الاستهلالي التقليدي الذي تتكلف فيه البراعة وتتوخى المحسنات البديعية؛ ومن ثم لا نرى في أشعار البحتري والطائي والشريف ومهيار وصفاً صادقاً حاراً لغرامهم. ومن الخطأ الشديد حين الكلام على النسيب في العربية أن نخلط نسيب هذا العصر الاستهلالي التقليدي بنسيب العصر الماضي الصادق الحي.
وقد شهد النسيب في الإنجليزية عصوراً مشابهة لهذه وإن جاء ترتيبها مختلفاً: فأما العصر الذهبي للنسيب في الإنجليزية فهو العصر الاليزابيثي الذي توفرت فيه الشروط السالفة الذكر، فكان عهد شباب وطموح ومغامرة، فيه ثروة ونهضة وعقلية وخلق متين؛ ومن ثم حفل مجتمع ذلك العصر بأحاديث الحب؛ وكانت قدوة الشعب ملكته التي كانت على جانب عظيم من الجمال والثقافة، يحيط بها طائفة من الفرسان البواسل، يتقربون إليها بتدويخ أعدائها ومد سلطانها براً وبحراً؛ ومن ثم ازدهر النسيب في أشعار شكسبير وسبنسر وبن جونسون وغيرهم
وفي العصر التالي خمد النسيب حيناً بتغلب طائفة المطهرين المتشددين الذين حولوا المملكة إلى صومعة يسودها الوقار والكآبة، وحرموا شتى المتعات والمسرات، حتى قيل إن سبب تحريمهم قتال الديكة - وكانت تلك تسلية معروفة إذ ذاك - لم يكن رغبتهم في الرفق بتلك الطيور، بل حرصهم على حرمان الناس السرور والتمتع. وقد ركد النسيب كذلك ركوداً طبيعياً لم يفرضه عليه أحد، في صدر الإسلام حين امتلأت النفوس برهبة الدين وانصرفت الهمم إلى جهاد أعدائه