للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

خيم الليل على دار ابن لقمان في مدينة المنصورة حيث أودع الملك الأسير وأمراء بلاده؛ وكان ليلاً رهيباً. وفي جوف الليل تذكر الملك الأسير بلاده وجيشه ومجده وآماله المحطمة والذل الذي يعانيه، فانحدرت الدموع غزيرة من عينيه. فخاطبه أحد أمرائه الذين يشاركونه الأمر قائلاً: (لقد نصحتك يا مولاي وقلت لك إن مصر عرين الشرق، وإن روح صلاح الدين العظيم لازالت تغذي أشبالها، فأبيت إلا محاولة ما أعجز قبلك إمبراطور ألمانيا وريكاردوس قلب الأسد)!؟ وهنا جلجل في حنايا القاعة صوت الحارس الطوشي (صبيح) الذي وكل إليه حراسة الملك الاسير، قائلاً: (نعم، صدقت أيها الأمير! أن أشبال الحمى وأبطال الوطن لتعد هذه الخاتمة لكل من رام مرام هذا الملك الأسير)

إن دار ابن لقمان لا تزال قائمة تنتظر الجيل الذي يعيد إليها حياة أبطالها. وإن من السواح الأوربيين والفرنسيين على الأخص من يقصدون هذه الدار ليشهدوا بأعينهم ويسمعوا بآذانهم عظة من أبلغ العظات ودرساً من أقسى الدروس تلقنهم إياه مصر؛ وإن الفرنسي الذي يتيه عجباً وخيلاء في رحاب دمشق وربوع ميسلون ليحنى الرأس إذلالاً أمام دار ابن لقمان. ولكن كيف يحتفظ المصريون بهذا الهيكل من هياكل المجد والفخار! إنهم ويا للعار قد أهملوه شر إهمال وتركوه نهب البلى والأقذار. وهاهي ذي أحجاره وجدرانه تصارع البلى في أنفة وكبرياء! فأية كرامة لامة لا ترعى هياكل المجد!؟ وكأني بزوار الدار من الأوربيين يقولون في أنفسهم وقد نظروا إلى حالتها المزرية هذه: (لو كانت لنا هذه الدار لجعلناها كعبة يحج إليها الشباب والفتيان ليستمعوا أبلغ أناشيد المجد والبطولة ترددها جوانب هذه الدار، وجعلنا منها رمزاً خالداً على الدهر، نمجد في رحابه أرواح أسلافنا الأبطال وهي ترفرف محومة بين جدرانه! ولكنها ويا للأسف المرير لشعب لا يرعى مجد آبائه!!)

إيه أيتها الدار!! لقد خط المجد على جدرانك أروع آيات البطولة؛ وفي رحابك سجن ملك من أعظم ملوك أوربا حاول اقتحام الوطن بجيشه العرمرم فتلقفته سيوف الأبطال والأشبال، فإذا الجيش أشلاء تتطاير على شفرات السيوف وأسنة الرماح، وإذا بالملك العظيم. . سجين جدرانك. .!!

ألا خبرينا أيتها الدار، كيف شهدت أوربا المتجبرة العاتية التي خرجت بجيوشها الجرارة

<<  <  ج:
ص:  >  >>