وترك أثراً عظيماً في نفوس أهلها وخاصة ابن أخي الإمبراطور جستنيانوس؛ وبعد عدة أعوام حينما تقدم بجستنيانوس عمره وأصابه الجنون، خافه حجابه إذا اخذ يهذي بقوله:(هش سيأتي ارثاس ويأخذكم).
وخلف الحارث ابنه المنذر الذي ظهر على ملك الحيرة الجديد قابوس بن هند عام ٥٧٠م في الموقعة التي ربما كانت هي المعروفة عند العرب بعين أباغ، وربما يكون رفض الإمبراطور جستنيانوس إمداده بالمال مانعاً إياه (المنذر) من الاهتمام برعاية مصالحه؛ وكان ذلك فاتحة عداء بينهما، ولذلك تلبدت سماء صداقتهما بغيوم عداء ظل مستحكم الحلقات إحدى عشرة سنة؛ ومنذ ذلك الوقت حتى استيلاء الفرس على فلسطين سنة ٦١٢م ضربت الفوضى بجرانها، وعمت أرجاء مملكة الغساسنة، فأخذت القبائل المختلفة تختار رؤسائها الذين كانوا بطبيعة الحال، وفي كثير من الأحيان، من جفنة؛ ولكن الأسرة نفسها تحطمت تماماً؛ وغير بعيد إن تكون قد استعادت قواها الداثرة وسطوتها الغابرة، حينما طرد هرقل الفرس من ارض سورية سنة ٦٢٩م إذ نجد الغساسنة مراراً يحاربون المسلمين بجانب رومة، ويتفق المؤرخون العرب جميعاً على إن جبلة بن الأهيم الجفني - الذي كان له ضلع كبير في النزاع - هو آخر ملك غساني، وقد حكم حوالي سنة ٦٣٥م؛ وان الشاعر حسان بن ثابت الذي كانت تربطه رابطة القربى بالغساسنة قد زار في شبابه بلاطهم فصور لنا تصويراً شاملاً دقيقاً ما يموج به من صور النعيم والترف والعظمة في قوله (لقد رأيت عشر قيان: خمساً روميات يغنين بالرومية، وخمساً يغنين غناء أهل الحيرة أهداهن إليه إياس بن قبيصة، وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها، وكان إذا جلس للشرب فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب له العنبر والمسك في صحاف من الفضة وأوقد له العود المندى إن كان شاتياً، وان كان صائفاً بطن بالثلج واتى هو وأصحابه بكساء صيفية يتفضل بها هو وأصحابه في الصيف، وفي الشتاء الفراء والفنك وما أشبهه؛ ولا والله ما جلست معه يوماً قط إلا خلع على ثيابه التي عليه في ذلك اليوم وعلى غيري من جلسائه. هذا مع حلم عمن جهل، وضحك من غير مسألة، مع حسن وجه وحسن حديث، ما رأيت منه خناً قط ولا عربدة)
ولم تكن إقامة الغساسنة ثابتة بعكس منافسيهم في الفرات، فقد حكموا الإقليم الذي حول