دمشق وتدمر، ولكن هذه الأماكن لم تكن في حوزتهم أبداً، وكانت عاصمة ملكهم البدوية (الحيرة) التي ظلت تنتقل معهم هنا وهناك، ولكنها كانت توجد عادة في الجولان جنوب دمشق، وقد استطاع الغساسنة إن ينشئوا حضارة اعظم من حضارة اللخميين لتأثر الأولين تأثراً شديداً بالثقافة الإغريقية، وللطبيعة البدوية التي كان عليها الآخرون الذين كانوا أوثق اتصالاً بالعرب الوثنيين الذين استطاعوا أن يسموهم بميسهم. وان بعض مظاهر هذه الحضارة لتتضح لنا من خلال الوصف الشائق لبلاط جبلة بن الأيهم، ذلك وصف الذي ينسب إلى الشاعر حسان. ولما صب النعمان الثالث ملك الحيرة جام غضبه على الشاعر الألمعي النابغة هرب إلى سورية حيث نظم قصيدة رائعة امتدح فيها الغساسنة في شخص مليكهم الحرث بن الأعرج، وبعد إن امتدح بسالتهم وشجاعتهم في ركوب متن الأهوال التي صورها في بيت واحد قوي يقوله فيه:
ولا عيب فيهم غير إن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
اخذ يقول:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ... من الجود والأحلام غير عوازب
محلتهم ذات الأله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب
رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب
تحييهم بيض الولائد بينهم ... وأكيسة الإضريج فوق المشاجب
وتاريخ البدو أيام الجاهلية لا يخرج من كونه سجلاً لحروبهم، أو بالأحرى عن ذكر عصابات كانت تغير على القوافل بين آن وآخر للسلب والنهب، ولم تكن ثمة حاجة إلى الاستغاثة، بل كان كل فريق منهم يفخر بنسبه، ويرمي الآخر بوابل هطال من الأهاجي المقذعة وتؤسر الإبل والنساء، كما كانت المناوشات العدة تقوم بينهم، ولكن القليل منها يؤدي إلى نشوب حرب، وكان ذلك نوعاً من الحروب الهوميرية أتاح فرصة طيبة للقيام بأعمال تنطوي على البطولة. ويقول ثوريك في ذلك: (وإذا شئنا أن نكتب التاريخ الواقعي لمثل هذه المنازعات البدوية وجدنا ذلك اقرب إلى المستحيل. أما عن المصادر المعاصرة لها التي تستأهل عناية الباحث، فليس لدينا سوى القصائد والمقطعات الشعرية التي ظلت