العظيم صاحب (دون كوبكسوت) والذي يباهي به الإسبانيون الإنجليز كما يباهي الإنجليز كل العالم بشاكسبير. والذي يقرأ سرفانتس لا يلبث أن يتملكه الإعجاب الشديد بذكائه الخارق، ونشاط روحه التي يطبعها المرح، وتسبح في لجة من المزاح البريء والدعابة الخلابة والنكتة الحلوة المضحكة. ولقد كتب سرفانتس مقدمة كتابه (دون كوبكسوت) وهو نزيل السجن، وقد صدرت تلك المقدمة عام ١٦٠٥ فما لبثت أن ترجمت إلى الإنجليزية ثم الفرنسية بعد صدورها بعام واحد. هذا وقد صدر الجزء الثاني سنة ١٦١٥، وقد استطاع سرفانتس أن يتناول في كتابه هذا الخالد حياة طبقات الناس في إسبانيا كما لو كان عائشاً بينهم - ولم تفته طبقة من تلك الطبقات على كثرتها إلا وتغلغل فيها واندمج في معائشها. فهو يصف المحامين والحلاقين، والأطباء والسماسرة، والمعلمين واللصوص، والكهنة وعذارى الأندلسيات من العرب والطباخين وأميرات قشتالة والجزائر. وشخصية دون كوبكسوت شخصية عجيبة اخترعها سرفانتس فجعلها تحب وتكره، وتسخط وترضى، وتنشد المثل الأعلى للحياة والقدوة الصالحة للفروسية، ودون كوبكسوت رجل غريب الاطوار، وهو في الحقيقة يمثل سرفانتس نفسه، لأنه شقي كما شقي صاحبه، وتعذب كما تعذب، وجال في الآفاق كما سجن سرفانتس وحي عبداً رقيقاً في قيود البيئات المختلفة كما حي سرفانتس عبداً رقيقاً عند أحد أمراء الجزائر ببلاد المغرب. ولقد عاش سرفانتس في العصر الذهبي لإسبانيا المسيحية في القرن السادس عشر بعد جلاء العرب والقضاء على صولة ملوك الطوائف، ومات في نفس اليوم الذي مات فيه شاكسبير من عام ١٦١٦.
يوريبيدز والسوفسطائيون
يصغر يوريبيدز الشاعر الدرامي اليوناني الكبير مواطنه سوفوكلس بخمسة عشر عاماً، ولهذه الخمسة عشر عاماً أثر كبير جداً في المسرح اليوناني الذي بدله يوريبيدز وغير معالمه إن لم يكن قد هدمه وأقامه على أسس جديدة متينة. ففي هذه الفترة كان السوفسطائيون قد عظم سلطانهم، واتسع مدى تعليمهم، وتأثر الناس بفلسفتهم، لأنهم علموا اليونانيين قواعد النقد، وبذروا في نفوسهم الشك، وجعلوهم يستريبون في كل قديم حتى آلهتهم، لأنهم كانوا يجيدون الجدل ويتقنون المنطق، فوسعهم أن يصبحوا المعلمين الفنيين لجميع الشعب اليوناني المثقف. ولقد تأثر بهم يوريبيدز، وانتهل من مورد فلسفاتهم، ومن