ممعن في إثخان غريمه. ومما أثر عن متقدمي الشعراء في التأمل في حال الإنسان وقول القائل:
مَنَعَ البقاَء تقلبُ الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي
وقول الآخر:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول؟ ... أنحب فيُقضى؟ أم ضلال وباطل؟
ويتزايد التفكير في خلق الإنسان وغايته كلما أنتشر العلم والفلسفة: فنرى في شعر بشار وأبي نواس وأبي تمام من آثار ذلك فوق ما نجد في شعر الأخطل والشماخ جميل، حتى يبلغ ذلك التفكير مداه بنضج العلوم والفلسفة في القرنين الثالث والرابع، ويبدو ذلك واضحاً في آثار شعراء العربية الكبار: أبن الرومي والمتنبي والشريف والمعري: لكل من هؤلاء فلسفة إنسانية منثورة في إنحاء شعره، ونظرة إلى الحياة تلائم طبعه ومذهبه: فابن الرومي يرى الحياة فرصة من الجمال الطبيعي والإنساني يجب إن تغتنم، ومتعة للحس والروح يجب أن تباكر. والمعري يرى حياة الناس شقاء وشراً متصلا. والشريف يرى مثله الأعلى في الفضيلة والمعاني. والمتنبي يرى الناس سواما يحر فيهم القتل ويحق لمثله إن يسود فيهم ويعتلي، فلسان حاله قوله:
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روَّى رمحه غير راحم
كما إن جُماع فلسفة المعري قوله:
فأف لعصريهم: نهار وحندس ... وجنسي رجال منهم ونساء
والحق إن المعري كان أشمل هؤلاء جميعاً نظرة، وأنفذ شعراء العربية جميعاً فكرة، وأشدهم شغلا بالحياة، وعناء بأمر الإنسان والأحياء، وتفكيراً في ماضي الإنسان ومستقبله، وتبصراً في أحوال مجتمعاته ودياناته، وله في كل ذلك من مستنير الأفكار المصبوبة في جزل الألفاظ والأساليب ما ينزله أرفع مكانة بين الشعراء المفكرين، على ما يشوب تفكيره في أكثر مواضعه من مسحة التشاؤم القاتم المغرق الذي هو وليد عصره المضطرب، وحياته الكئيبة، وبنيته السقيمة، وأعصابه المرهفة.
وفيما عدا المعري نرى أدباء العربية عامة أقل عناء بشؤون الإنسان وشغلا بالحياة وغايتها من أدباء الإنجليزية؛ وهم أكثر منهم قبولا للحياة على علاتها، ورغبة في اغتنام متعاتها