للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولكن هاتيك التعلات وا أسفاه تسربت إليها في النهاية برودة المكان، وصار لأصواتنا رجع كئيب موحش هو الصدى المرتد من أحجار ذلك السجن، صارت أصواتنا حبيسة ضعيفة ولم تعد كما كانت بالأمس طليقة مليئة. ربما كان ذلك وهما ولكني لم اعد أتبين في تلك الأصوات أصواتنا السوالف.

- ٤ -

كنت أكبر هؤلاء الثلاثة، وكان علي أن أشد أزر أخوي وأسري عن قلبيهما، ولقد قمت من ذلك بأحسن ما استطعت، وكذلك قام كل منهما بما وسعه

وتالله لقد حرك الحزن نفسي من أعماقها، وبلغ الأسى منها كل مبلغ من أجل أخي الأصغر، ذلك الفتى الذي أحبه أبي لأنه كان يرى في جبهته جبهة أمه، وكان يرى في عينه لازورد السماء

وفي الحق أنه مما يذكي القلوب أسى أن يرى مثل هذا الطائر في مثل ذلك القفص. ذلك لأنه كان جميلاً كالنهار حين كان يبدو لعيني من جمال النهار بقدر ما يبدوا منه لأعين النسور الفتية المحلقة في جو السماء؛ كان جميلاً كنهار القطب، لا يرى الغروب حتى يتصرم صيفه، ذلك الصيف الصاحي الطويل زمن ضوئه ابن الشمس المتشح بياض الثلج.

كان أخي شبه ذلك النهار في نقائه وبريقه وكان عذب الروح يفيض بالمرح، ولا تعرف عيناه الدموع في شيء، اللهم إلا فيما ينال الآخرين من شقاء، وهنالك تفيضان كما يفيض الغدير المنحدر من الجبل، ولن يرقأ دمعه حتى يدفع ذلك الشقاء الذي أزعجه مرآه وأمضه

- ٥ -

وكان الآخر مثله في صفاء الروح، ولكنه خلق محارباً مقداما، فكان قوي البنية، متين الأعضاء، له من قوة الإرادة ما يتحدى به العالم في ساحة الحرب، وكان أشد ما يبهج نفسه أن يتاح له الموت في طليعة الصفوف، لا أن يذوي هكذا في الأغلال.

ولقد أوهن روحه صليل تلك الأغلال حتى ذبلت كما تذبل الزهرة، ورأيتها تتساقط شيئاً فشيئاً، وفي الحق لقد نالني مثل ما ناله، ولكني تجلدت لأبقي على حشاشة هذا البيت العزيز الغالي، وكان أخي هذا صائداً يطارد الغزلان والذئاب على متون التلال، ولذلك كان

<<  <  ج:
ص:  >  >>