المدرسة خرج مكروباً لا يتقار من الكلال والسأم، فينفس عن صدره بالفكاهة الرخيصة أو القراءة السهلة ? فإذا نال الشهادة بالحفظ تبعه هذا النفور إلى منصبه إذا كان عبد الوظيفة، أو إلى مكتبه إن كان حر العمل، فيكره الأدب لأنه يتذكر درس (المحفوظات)، ويعاف القراءة لأنه لم ينس درس (المطالعة)؛ وعمله وأمله لا يقتضيانه التعمق ولا المزيد، فيعود كما بدأه الله أمياً يعمل بالإرشاد، وفطرياً يهتدي بالغريزة. والمعلم الذي يخرّج التلميذ اليوم، كان هذا التلميذ نفسه بالأمس: أرسل إليّ مدرس في كلية الآداب كتاباً يسألني فيه أن أقطع عنه (الرسالة) لأنه لا يجد وقتا لقراءتها، وهو لا يلقاك إلا حدثك بما قالته المجلة الفلانية عن الفتاة فلانة، وما تهزأت به المجلة الأخرى من الأستاذ فلان؛ ثم سأله أحد طلابه ذات يوم عن (واسط) فقال له: أحسبها مكاناً في طريق القصير ? قرأت هذا الكتاب فعذرت وكيل المعرض الزراعي الصناعي وقد دخل عليه مندوب الرسالة يطلب إليه (تصريحاً صحفياً) بدخول المعرض، فقال له وإمارات التعجب الساخر تتخايل على جبينه العريض: ولكني لم أر هذه (الرسالة) قط! فلم يجبه مندوبنا وإنما أجابه حاجبه هو بقوله: لا، يا بك! هذه مجلة صفتها كيت وكيت؛ وأنا وابنتي نقرأها كل أسبوع، ونجلدها كل سنة ? سمعت هذا الخبر فعذرت ذلك الباشا القاروني الذي أهديت إليه الرسالة لصلة بين أخي وبينه، فردها علي وقد كتب على غلافها الأبيض بالقلم الغليظ:(مرفود) فوقع في نفسي أن الباشا يتشبه بالملوك والخلفاء، في رفد المعوزين من الأدباء والشعراء، فهممت أن أكتب إليه أشكره وأستعفيه لولا أن نبهني صديق أوتي منطق الناس أن (مرفود) معناها (مرفوض) ولا أريد الترسل في هذا الحديث، ففي ذاكرة كل صحافي من بابه طرائف وأعاجيب
الحق أننا لا نزال أمة أمية ننظر إلى الكتاب نظر المتعظم الخائف، أو المتقنع العازف؛ ومادمنا لا نرى الكتاب ضرورة للروح، كما نرى الرغيف ضرورة للبدن، فنحن مع الخليقة الدنيا على هامش العيش أو على سطح الوجود
تتطور المذاهب والآراء، كما تتطور الحلي والأزياء؛ فإذا لم تتقصّ بالقراءة المتجددة أخبار هذا التطور في أطراف الأرض عشت في عصرك غريب العقل أجنبي الشعور وحشي الثقافة، كالذي يلبس في الناس زيا مضى بدل زي حضر
إن من وظائف المدرسة أن تعودك القراءة وتعلمك كيف تقرأ، وإن من وظائفك أن تقرأ