للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

على عرفه المصادمون له في عقائده؛ أولئك وهؤلاء سيّان في التشاؤم ورفض الإيمان والعزاء النفسي، أو قل هما طرفان متباعدان بينهما الوسط الذي يحتله المتفائلون الراضون بالحياة على علاتها، المتسلون بنعمائها عن بأسائها في قصد واعتدال، المتشبثون ببعض مثلها العليا

على أن المتشائمين أنفسهم لا يخلون من عزاء وإن توهموا سوى ذلك؛ وأشدهم إمعاناً في التشاؤم لا ينضب من نفسه حب الحياة، وعزاء أكثرهم هو ذلك الفن الذي يزاولونه، هو أدبهم الذي يودعونه فلسفتهم المتشائمة وخطراتهم القائمة، ففي كتابة أفكارهم تلك راحة لنفوسهم المعذبة وشفاء لغرائزهم الظامئة؛ ولولا أنهم ما يزالون يحبون الحياة في صميم أفئدتهم، على رغم إعلانهم الحرب عليها، لما لبثوا بساحاتها؛ ولو أنهم يزدرونها ويزدرون أبناءها بقدر ما يزعمون، لما حفلوا بتدوين آرائهم فيها وعرض تلك الآراء على أبناءها؛ ففلسفتهم المتشائمة تناقض نفسها بنفسها

فإذا كانت فلسفة تصدق أو تفسير للحياة يقبل، فليست فلسفة المتشائمين بالتي ترجح وتفسر الحياة، وليست رسالتهم التي يؤدونها إلى الإنسانية بالتي تقبل، لأن فلسفتهم كما تقدم تناقض نفسها، وتناقض طبيعة الحياة التي بثت حبها في جبلات أبنائها، ومهدت من متعاتها ما يرجح شوائبها، وزودت بنيها بالسلاح اللازم لهيجائها. ليست فلسفة المتشائمين بالمقبولة في جملة، وإن احتوت في أطوائها من صائب النظرات وبديع اللفتات وآثار الفكاهة والسخر والوصف والتحليل ما يمتاز به أصحاب ذلك المزاج، وما يهديهم إليه حسهم المرهف المستوفز وخيالهم المتيقظ المسترسل

وفلسفات المتشائمين في مختلف الأمم والأجيال متماثلة، ومواضيعهم متقاربة: إسهاب في شرح مظاهر تنازع البقاء، وإطناب في ذكر لئيم الطباع في الأحياء وفي الإنسان خاصة، وإصرار على تذكر الموت وكرور الزمن وحلول البلى، وتهويل لضعف الإنسان إزاء جبروت القدر، وتصوير لنفاق المجتمع وجور أنضمته، وتحقير للمرأة وموازنة بينها وبين الحياة؛ وآراؤهم في كل ذلك مردها إلى اضطراب تكوينهم وتزعزع ثقتهم بأنفسهم وحرمانهم من شتى مطالب الحياة؛ ففلسفة المتشائمين لا تدلنا على حقائق الحياة والكون، بمقدار ما تدلنا على نفوس أصحابها وأمزجتهم وعوامل تكوين أذهانهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>