فهم يجزعون لمرآي تنازع البقاء لإحساسهم بأنهم عزّل ضعفاء، وينحون على المجتمع بقوارع الكلم لأنهم عاجزون عن الانغمار فيه ونيل الحضوة والصدارة به، ويذكّرون الناس بالموت والدثور لأن الناس يتمتعون دونهم بالطيبات، فهم يسلّون أنفسهم بتكرار القول بأن تلك الطيبات عما قليل ذاهبة، ويخوفون الناس بجبروت القدر لأن غيرهم يتمتعون بالقوة والاقتدار، فهم يلوحون أمام أعينهم بالقدر الذي يتلاعب بهم ويضحك من تدبيرهم، ويرمون المرأة بالغدر والتقلب لأنها تفي لغيرهم، ويجاهرونها بازدرائهم إياها لأنهم يسرون الإحساس بازدرائها إياهم وإعراضها عنهم.
ولما كان مردّ المزاج السوداوي المتشائم إلى عوامل فردية محض، من وراثة أو بيئة، يظهر المتشائمون في شتى الأمم والأجيال متفرقين لا اتصال بينهم من مدرسة أو مذهب؛ على أن مسحة التشاؤم تطغي عادة في آداب عصور الأدبار السياسي والضيق الاقتصادي والفوضى الخلقية، فيسود الشك والرفض والتهكم المرير، كما كان الشأن في الأدب الروسي تحت الحكم القيصري؛ كما أن صبغة الأيمان والبشر والتفاؤل تغلب في عصور الرخاء والنجاح والمغامرة، وهي الصبغة التي سادت الأدب الإغريقي في عصره الذهبي عقب الانتصار على الفرس. فلما تلا ذلك عهد الأدبار ظهر السخر والشك ومذاهب الرفض والاعتزال من جهة، ومذاهب الاستهتار والإباحية من جهة أخرى
ولعل أشد أدباء الإنجليزية نكيرا على الإنسان وتهكما بمساعيه وتهويناً لشأنه هو جوناتان سويفت، وهو أديب نشأ نشأة ضنكة مقلقة، ولازمه داء في أذنه جشمه آلاما مبرحة، ومازال حتى طغى على عقله في أواخر حياته؛ وحالف الإخفاق مطامحه السياسية وصاحب النحس غرامه، فلم يبق له إلا الانزواء في عزلته ببعض بلدان أيرلندة، وإلا أن يقول لبعض أصحابه إنه يمقت ذلك الحيوان المسمى الإنسان من أعماق قلبه، وما ذاك إلا لما كابد من عنت الظروف والأمراض ولدد الخصومات وغصص الإخفاق، وهو الذي كان فيما عدا ذلك من أوفى الناس عهدا وأصفاهم ودا، وهو الذي عطف على الأرلنديين ودافع عنهم، على حين ناصبهم من قبل ذلك مواطنه وزميله في حرفة الأدب ادموند سبنسر. وكتاب سويفت (رحلات جليفر) على ما به من سلالة وفكاهة وبراعة تصوير، مملوء بالسخر المرير من الإنسانية.