للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وزعيم التشاؤم في العصر الحديث توماس هاردي، الذي كانت أشباح الموت والبلى والقدر لا تبرح ناظريه، وكان لا يمل تكرار موضوعه الوحيد في شتى قصائده وقصصه: موضوع ضعف الإنسان وقلة حيلته وعبث مسعاه، حيال ضربات القدر الأعمى، ودوران رحى الزمن الطحون، فكان دائبا يتفنن في اختراع المواقف المفجعة والظروف المنحوسة، يتخذ مشاهدها في المقابر والبراري وفي الأيام الداجنة الكالحة، ويطيف أشخاص روايته بين الموتى، وينطق الموتى في أشعاره، ويغالي في تصوير فجائع الحب: بين الغدر والسلو والنسيان والغيرة وجفاف الجمال؛ فأشعاره لا تكاد تنتقل بك من غمة إلا إلى غمة، ولا من محنة للإنسان إلا إلى انتصار وحشي للأقدار عليه

ومعاصره أو خليفته في هذه النظرة المتشائمة إلى نصيب الإنسانية في الحياة هو هاوسمان، الذي كان يحاكيه كثيراً في اختيار مواضيعه وطريقة معالجتها وإجرائه الحديث فيها بين الأحياء والأموات. ومن نماذج ذلك الضرب من شعر التشاؤم قوله: (- أما برحت خيلي تحرث الأرض كعهدي بها، إذ أنا حي أسواقها واسمع صليل شكائمها؟ - بلى ما تزال تنقل خطاها وشكائمها تصل، ولم يتغير شيء برغم أنك قد رقدت تحت الأرض التي كنت من قبل تحرثها - أو ما تزال الكرة تترامى ويتسابق خلفها الرفاق على شاطئ النهر، وإن أك لا أستطيع اليوم نهوضاً؟ - نعم تترامى الكرة بينهم وكلهم باذل في اللعب جهده، وذلك مرماهم قائماً وحارسه لايني - وفتاتي التي شق عليّ فراقها، أسأمت البكاء واستطابت طعم الغمض؟ - نعم هي ناعمة في خدرها، فنم أنت وقر - وهل صديقي صحيح معافى وقد نحلت أنا وبليت؟ وهل وجد بعد فراشي فراشاً وثيراً؟ - أجل أنا يا صاح لي ضجعة كأروح ما يشتهيه الفتى: أسلي حبيبة رجل قضى، ولا تسألني حبيبة من)

ومن أمثلة الوراثة المختلة والمزاج السوداوي في تاريخ الأدب الإنجليزي كوبر وبيرون: كلاهما كان مضطرب التكوين اضطراباً أدى إلى ظهور الغرابة في مسلكيهما وأدبيهما. على أنهما رغم اتفاقهما في ذلك كانا يختلفان ثقة بالنفس: كان أولهما ضعيفاً متناهياً في الخجل، وكان الثاني مفرطاً في الزهو والاعتداد بمواهبه ونسبه، فقنع كوبر بحياة العزلة ولم يعلن على الناس حرباً، وإن ظهرت أعراض التشاؤم في كثير من شعره؛ أما بيرون فصادم المجتمع بمسلكه الخلقي كما هاجمه في شعره؛ ولما لفظه المجتمع الإنجليزي زاد

<<  <  ج:
ص:  >  >>