عتوا وجرأة، وتحدياً لخصومه وتشفياً من مؤيدي النظم الاجتماعية التي كان يمقتها. هذا فضلاً عما حفلت به آثاره عامة من تصوير لضعف الإنسان وقصر مدته وعبث جهوده.
ورمز التشاؤم في العربية هو ولا شك المعري، الذي اجتمع عليه من أسباب التشاؤم ما لم يجتمع على غيره: من اعتلال التكوين الجسمي، واختلال الصحة، والحرمان من شتى اللذات، واضطراب العصر الذي عاش فيه، فجاءت فلسفته مثالاً نادراً لفلسفات المفكرين المتشائمين: حقر الإنسان. وأنذر ببطش الأقدار، وذكر بالموت، وشك في الدين، وأزرى بالمرأة، وندد بالمجتمع، وفند الحكام، وأطنب في تنازع البقاء؛ ورثى مع ذلك للإنسان ورأف بالحيوان، وضاق بنفسه كما ضاق بغيره وحرم على نفسه اللذات وعاش نباتياً ومات عزباً لم يجن على أحد، وعبر عن نظراته النافذة الحكيمة التي سبق بها عصره، تعبيراً شعرياً عربياً جزلاً ممتعاً؛ وكان صادقاً صريحاً: اعترف بأنه لم يختر تلك الحياة الضنكة إلا لأن سواها قد شآه، فهو القائل.
ولم أرغب عن اللذات إلا ... لأن خيارها عنى خنسنه
فقد كان لدقة حسه شديد الحرص على كرامته، شديد التوقي لمواطن السخر والزراية، فكان ذلك حائلاً بينه وبين ما تصبو إليه غرائزه من متعات، وكانت حياته معركة طويلة قائمة داخل نفسه، بين الرغبة في الاستمتاع بطيبات الحياة والإصرار على رفضها، لاستعصاء سبلها على الكفيف المجدور، إلا أن يبيح كرامته ويهدر حياءه. وما أطار خياله إلى طيبات الفردوس إلا حرمانه من طيبات الحياة وطول نزوع نفسه إليها. وما كان وصفه لمتعات الخلد إلا إرضاء لشهواته المخمدة تحت رماد التوقر والتقشف. وما كان تأليفه رسالة الغفران أو اتخاذه الخلد مسرحاً لها إلا تنفيساً عن مكتوم نوازعه؛ وبفضل هذه النوازع المكبوتة خلّف المعري الكفيف أثراً من آثار الخيال فريداً في اللغة، كان المبصرون من أدباء العربية منصرفين عن مثله
والمعري نسيج وحده في التشاؤم في العربية، يرفع راية الرفض للحياة والاعتزال لها والإزراء عليها، ويمارس في حياته ما ينادي به في أشعاره، ولا ينضوي تحت تلك الراية سواه: إنما كانت غالبية المتشائمين في العربية الذين نبذوا الإيمان ورفضوا العزاء وهانت عليهم الحياة فلم يجدوها أهلاً لسعي ولا لحفاوة هم طائفة المتشائمين المستهترين، الذين