(أما أن أخته قد دبرت قتله لخوفها من تنفيذ وعيده لها بالقتل، فهو حديث خرافة، والواقع أن مصيره لم يعرف قط، وعندي أنه طبقاً لكل ما نعرفه من حياته، قد رأى استحالة تحقيق مبادئه في مصر، فاعتزل الحياة واختفى في مكان ما ليقضي حياته بعيداً عن الأنظار لكي يعتقد أنصاره على الأقل أنه هو (الناطق) حقيقة (ناطق الزمان) وأنه سيعود من رمسه آخر الزمان في شخص الإمام أو المهدي؛ وهذا ما لا يزال ماثلا إلى اليوم في عقائد الدوز)
أما نحن فمازلنا نرجح فكرة المؤامرة والجريمة: وسواء أكانت المؤامرة من تدبير ست الملك، أم من تدبير أبن دواس، أم كانت من تدبير الدعاة أنفسهم، وسواء أكان الذي ارتكب الجريمة هم عبيد ابن دواس، أم البدو الذين اعترضوا الحاكم ليلة اختفائه: أم آخرون لم يعرفوا: وسواء أكانت البواعث السياسية أم البواعث الدينية هي التي أملت بتدبير المؤامرة وارتكاب الجريمة، فإن ما لدينا من الروايات والقرائن على أن الحاكم قد زهق ضحية الجريمة، يرجح في نظرنا كل فرض آخر مما استعرضنا
وليس من المستحيل أيضاً، أن يكون الحاكم قد اختفى من تلقاء نفسه أو بتحريض الدعاة لبواعث أو مشاريع خيالية أو جنونية قامت في نفسه: بيد أن هذا الفرض يبدو في نظرنا من الضعف والإغراق بحيث له موضعاً من التاريخ.
هذا والظاهر أن فكرة اختفاء الحاكم بأمر الله لبثت مدى حين تردد بين آونة وأخرى حتى أوائل عهد المستنصر بالله، أعني بعد وقوع الحادث بنحو ربع قرن، وقد أشرنا فيما تقدم إلى قصة ذلك المشعوذ الذي تسمى (بأبي العرب) وزعم حينا أنه الحاكم ثم توارى بعد ذلك. بيد أن هنالك قصة أخرى من هذا النوع كادت أن تحدث فتنة حقيقية؛ ففي رجب سنة ٤٣٤هـ (١٠٤٣م) في أوائل عهد المستنصر، ظهر بمدينة مصر شخص يدعى (سكين) كان يشبه الحاكم في بعض ملامحه، وادعى أنه الحاكم، وأنه بعث بعد موته وعاد من غيبته؛ والظاهر أنه كان من عصبة الدعاة السريين، وأن الدعاة أرادوا بدفعه إلى هذه المغامرة أن يحاولوا إثارة الفتنة التي خمدت، وأن يطبقوا نبوءاتهم وما بشروا به في رسائلهم من رجعة الحاكم بصورة عملية؛ فالتف حوله فل الملاحدة، من شيعة الدعاة الذين يعتقدون أو يتظاهرون بالاعتقاد في هذه الخرافة؛ وفي ظهر يوم سار سكين وأصحابه إلى القاهرة وقصدوا إلى القصر الكبير، ولما حاول الجند منعهم نادى الملاحدة بأنه الحاكم، قد