للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الندى؛ ولكن قل في الناس من يتعرف الوضع المناسب، ويتبين المقام المشاكل، وما ذلك في الواقع إلا مسبار الذكاء، ومحك البراعة، وهل التنادر يقوم إلا على قوة المفارقات، والتمييز بين المناسبات؟ وهل الرجل الذي يلقي بالنادرة في موقف العظة والاعتبار، أو يخلق الضحكة ينطلق بها فمه بين مظاهر الأسى والحزن، ألا نزق طائش، بل قل سفيه لا يحس بالواجب، ولا يقدر العواقب، وسرعان ما ترمقه العيون بالنظر الشزر، ويقعد في الجالسين مقعد الثقيل المملول، وربما كانت نادرته حلوة رائعة، وضحكته رقيقة حسنة، ولكنه ألقى بها في المقام الكز، واختار لها الموقف الخشن!!

ولا عاب في المزح عند الجاحظ إلا أن الخطأ إليه أسرع، وحاله بحال السخف أشبه، ومن ثم فهو يرى أن من الصون للأديب أو العالم أن يكون فيه على قصد، وأن يعالجه على قدر، هو قدر الاسترواح والانشراح. ولقد أوضح هذه الناحية إذ يقول: (والمزاح باب ليس المخوف فيه التقصير، ولا يكون الخطأ فيه من جهة النقصان، وهو باب متى فتحه فاتح، وطرق له مطرق، لم يملك من سده مثل الذي يملك من فتحه ولا يخرج منه بقدر ما كان قدم في نفسه، لأنه أصل بناءه على الخطأ، ولا يخالطه من الأخلاق إلا ما سخف، ومن شأنه التزيد، وأن يكون صاحبه قليل التحفظ، ولم نر شيئاً أبعد من شيء ولا أطول له صحبة. .، من الجد والمزاح، والمناظرة والمراء. . .)

وهذا كلام يتفق فيه الجاحظ هو وصاحب حديث المائدة، إذ يقول في كلام له عن الجد والمزاح (أنا لا أمقت منكم ميلكم إلى الضحك، ولا أضن عليكم بالكلمة تضحككم متى قدرني الله على ذلك، فأما أن تطلبوا إلي ألا أقول إلا ما يضحك، وإلى أنفسكم ألا تفعل شيئاً غير الضحك، فذاك مخالف لسنة الطبيعة، وجدير بمن هذا شأنه أن ينقلب قرداً لتوّه وساعته. . . ولذا كان من البلية على الكاتب أو الشاعر أن يسترسل في باب المضحك، فإنه يعوّد الناس بذلك ألا ينتظروا منه إلا ما يضحك وألا يعرفوه إلا مزاحاً، فهم يضحكون معه مادام يضحكهم، فإذا أراد أن يجد وشرع ينطق بالعلم والحكمة ضحكوا منه وهزئوا به). ثم ينظر صاحب حديث المائدة إلى الموضوع من ناحية لم يتمعنها الجاحظ فيقول: (على أن هناك سبباً أغمض من ذلك، ألا تشعر أنك ترى نفسك فوق كل إنسان يتصدى لإضحاكك، سواء بحركات جسده أو بحركات قلمه؟ بل ألا تشعر بأنك تفيض عليه من برك

<<  <  ج:
ص:  >  >>