للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وإحسانك إذ تمن عليه بتقبلك منه الوثبات الحقيقية أو الشعرية!!. فإذا لزم أدبه، ووقف عند حده فخيراً يفعل، وإذا حاول أن يعلو إلى مقامك الرفيع، فأخذ يدلي إليك من منبر عظته نوابغ الحكم، فبئس ما صنع، وساء ما أتى، وهيهات أن يقوم عندك مقام الواعظ، أو يفوز منك بنظرة الإجلال التي هو جدير بها لعلمه وأدبه!).

وما كان الجاحظ من الدعابة والمزح، إلا في ذلك المقام الكريم الذي اتفق عليه هو وصاحب حديث المائدة، فتجده يستروح بالنادرة، ويتفكه بالدعابة، ولا يضن على السامر بالكلمة تصفق لها القلوب، وترتاح لها النفوس. وإنه في أبحاثه وكتاباته ليبتدع النكتة ابتداعاً، ويحتفل بالنادرة يسوقها إلى القارئ، ولكن كل هذا في المقام المناسب، وعلى القدر اللازم، فما تعدى طوره، ولا خرج عن قدره، ولا أستذل كرامته بالتزيد والإمعان في المجانة. وإذا كان ابن قتيبة قد عاب الجاحظ بالعبث والضحك، فما ابن قتيبة إلا مسرف في هذا الاتهام، وإنه ليطعن الجاحظ في غير مطعن، بل أنه ليريد أن ينكر على الرجل طبيعته البشرية، وكأنه كان يحمله له ضغناً، ولماذا ينكر ابن قتيبة على الجاحظ ما استباحه هو لنفسه في عيون الأخبار من سرد المضاحيك والمعائب، حتى ليقول في مقدمة ذلك الكتاب بلهجة صريحة: (وسينتهي كتابنا هذا إلى باب المزاح والفكاهة وما روي عن الأشراف والأئمة فيهما، فإذا مر بك أيها المتزمت حديث تستخفه أو تستحسنه أو تعجب منه أو تضحك له، فاعرف المذهب فيه وما أردنا به، واعلم أنك إن كنت مستغنياً عنه بتنسكك، فإن غيرك ممن يترخص فيما تشددت فيه محتاج إليه، وإن الكتاب لم يعمل لك دون غيرك، فيهيأ على ظاهر محبتك! ولو وقع فيه توقّي المتزمتين لذهب شطر بهائه وشطر مائه، ولأعرض عنه من أحببنا أن يقبل عليه معك. . .)، وأحب أن يتأمل القارئ قوله - شطر بهائه وشطر مائه - فيا ليت شعري إذا كان توقّي المزاح والفكاهة سيذهب بالبهاء والماء، فماذا يبقى بعد!؟.

(للكلام صلة)

محمد فهمي عبد اللطيف

<<  <  ج:
ص:  >  >>