أصل الأنواع إنما ظهر عام ١٨٥٩ وكذلك في الأعوام الأخيرة نشأت اكتشافات جديدة غمرت الأرض وألقت في إخلادهم أن العلم قادر على تبديل الحياة الاجتماعية وغير عاجز عن تغيير الحياة ذاتها. وساعدت على نشر هذا الاعتقاد الانتصارات المتتالية في كل ميادين العلم. ولم يقبل عام السبعين حتى ازداد هذا الاعتقاد عنفا ورسوخاً حتى اعتنقه بعضهم كما يعتنق ديناً. على أن الناظر لا يرى خلقا جديداً في مذاهب العلم وأساليبه وأصوله، ولكن غير العلماء كانوا يتحرون في أصوله عن النور الذي ينبغي له أن ينير مسالك الحياة الاجتماعية والحياة الخاصة وما قدر لها. فـ (رينان وتين) قد جمعت آثارهما قبل عام السبعين ولكن الشباب لم يتخذ منهما قائدين إلا بعد هذا العام. وهكذا انتشر سلطان العلم وغلب على كل سلطان وطني على الأدب واصبح موضع الأنظار. وأعلن أحد رسل العلم (برتلو) بعد اكتشافه في الكيمياء مذهب تأليف الأجزاء المتفرقة بأنه بواسطة هذا المذهب يستطيع إنسان الغد أن يصبح المسيطر على عالم الأجساد والنفوس. فهو يضع غذاءه ويخلق عصور الرفاهية التي تتجلى فيها المساواة والإخاء إزاء شريعة العمل المقدسة. كل شيء سجله العلم ويخلقه خلقا جديداً. وكذلك شأن الأخلاق يدركها هذا التطور الذي أدرك الطبيعة
كل شيء في الحقيقة ينتظم ليخضع كل فكرة إنسانية لقوانين العلم. وقد كان علم طبقات الأرض وعلم الآثار القديمة والتوسع فيها كانا ذائعين في القرن الثامن عشر قبل أن تتفجر عن العلم اكتشافاته وتزداد حركته. وهنالك مجامع كثيرة قامت ومدارس نشأت تطلب أن تقيم الدراسة المحض للحقائق بدلا من الركض وراء الخطرات الخيالية اللامعة على غير جدوى. ولكن هذه المطالب كانت لا تزال تقدم رجلا وتؤخر أخرى، فيها تردد غير المطمئن وشك غير المؤمن. فبقي التعليم وجامعاته والنقد وحركاته أمينة لمذاهب الأدب القديمة التي تعتمد على الذوق والذهاب إلى إحياء فن الأوائل بالخيال، حتى بزغ عام السبعين فبدأت الأذواق تنفر من هذه الأخيلة، ودعا الأدباء إلى اعتناق علم (الألمان) الذين ربحوا الحرب، ليكون منهم علماء في دراسة اللغات ومؤرخون وأساتذة، وأن تكون دراساتهم مرتكزة على بحث الحقائق وتجريدها ونقدها نقداً علمياً. وقد طغت هذه الدعوة العنيفة على جامعات فرنسا وغزت مجامعها الأدبية. فتغير الأسلوب وتبدلت المناهج،