للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فرح الأستاذ كثيراً حين بلغ علم طاغي وسكن إليها. ورسم له أن يهبط المدينة مرة كل أسبوع لزيارة أصدقائه واستشارة أطبائه. وكان هو يقول: سأفترش سجادة تحت شجرة وأنشق الهواء النقي، وأستمتع بحرارة الشمس الصافية، وأحاول أن أسترجع قواي وشيكاً. فإذا آنست في بدني الصحة، دعوتكم جميعاً إلى علم طاغى، وعندي هناك طاه منقطع النظير.

وحق إن الأستاذ افترش سجادته في ظلال أشجار علم طاغي الخضراء، وأنس بها وتمشى في تلك المروج، ولكن مرارة الدواء كانت تنغص عليه جمال المكان ومسراته، بل كانت ترد هذه المتعة الموموقة سماً قاتلاً. وكان يقول: لو إن هذه الأدوية تشرب مرة واحدة كل يوم! لا أكاد اخلص من جرعة حتى ألزم بجرعة أخرى، فأنى لي أن أشهد جمال علم طاغي وآنس لذاتها.

لست أنسى قوله ذات يوم: (يا بني لقد كنت أطوي الطريق من اسكدار إلى علم طاغي سيراً على قدمي لا أبطئ ولا أقف. وهاأنذا اليوم اقطع الطريق لا تمس قدماي الأرض. ولكن ماذا تجديني هذه السيارات وآهاتي فيها لا تفتر. آه لو شفيت فعدت سيرتي أقطع الطريق على قدمي!.) - وأما هواء (علم طاغي) فلم يرد على الأستاذ عافيته بل كانت قواه في خور مستمر.

ليت شعري ماذا ألهمه هذا التفكير العميق الذي دام أشهراً؟ وماذا كان يريد أن يعرض علينا من أفكاره حين يبل من مرضه!! لقد كان نظم (قصة الاستقلال) إحدى أمانيه منذ سنين. وكان يبغي من التجاءه إلى مصر أن يخلص من متاعب الحياة ويفرغ لهذه القصة. فلما هم بهذا طلبت إليه رياسة الأمور الدينية في أنقرة أن يترجم القرآن الكريم إلى اللغة التركية، فأشفق وأبى وأعتل بأن أمامه قصصاً يود أن ينظمها، فلم يقبل عذره وتوسلت رياسة الأمور الدينية بصديقه الحميم أحمد نعيم بك أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة استنبول فاضطر عاكف أن يذعن كارهاً. والحق إن إباءه الإطلاع بترجمة القرآن أول الأمر كان من إجلاله الكتاب الكريم واعتقاده إن إنساناً لا يستطيع أن يؤدي ترجمته على الوجه الجدير به مهما أوتي من العلم والبيان. وكان كلما سئل عن الترجمة قال: (لم اقدر عليها. إنها لم ترضني فكيف ترضي غيري؟.) وقضى الأستاذ سبع سنين في مصر وهو في شغل

<<  <  ج:
ص:  >  >>