فيه وتوجهه في طريقها وفي هذه الألوان الغريبة التي عملت في تكييفها شتى العوامل، وفي إظهارها مفتنة متموجة، تتجلى عبقرية بورجيه وقدرته الفائقة على تحليل الحالات النفسية المعقدة إلى دقائقها، وتصويره لها في أروع صورها وأدقها، في أسلوب بياني خلاب.
فما من شك في أن هذه القصة من أعجب المثل الأدبية الخليقة بالخلود، الحقيقة بأن تمثل في كل لغة تقيم للأدب العالي وزناً، فللأستاذ المترجم أخلص التهنئة على هذا التوفيق الذي صادفه في ترجمتها، وأجزل الشكر على الجهد البليغ الذي بذله فيها، حتى جلاها في أسلوب عربي رائق، ومظهر من النشر أنيق.
وبعد فقد كنا نود، مع هذا الصنيع المبارك المشكور، لو أن الأستاذ المترجم عني بأن يبرز إلى اللغة العربية صورة من هذا الأثر الفني الخالد دقيقة كاملة بتفصيلاتها. كما أبرزها جميلة وافية في جملتها. ولكنه اتخذ لنفسه مذهبا في الترجمة وضع فيه الأدب ودقة النقل في المكان الثاني. ووضع فيه جمهور القراء في المكان الأول: فهذه صورة لا تتفق مع تقاليد جمهورنا، إذن يجب أن تبعد! وهذه مسألة فلسفية أطنب المؤلف في عرضها حتى لا تلائم عقلية جمهورنا، إذن يجب أن تبتر! وهذا إسهاب في التحليل والتصوير يبعث السأم إلى نفوس جمهورنا، إذن يجب أن ينفى! ولا بأس بشيء من ذلك مادام سياق الرواية مضطردا، ووقائعها متسقة، وفكرتها محققة. هذا هو مذهب الأستاذ المترجم عرضه في مقدمة ترجمته. وعندنا أن هذا المذهب إن جاز أن يتخذ في نقل بعض الآثار الأدبية الأخرى فلا يجوز أن يتخذ في هذا الذي سماه الأستاذ المترجم نفسه خالدا، والذي صدر عن نابغة كتاب فرنسا حقا، فهو أثر عالمي لا ينبغي أن يخضع لسيطرة بعض هذه الاعتبارات البسيطة. على أنا لا نمنع مع هذا أن المسالة دقيقة كل الدقة، وأن الفصل بين المذهبين ليس من الأمور الهينة التي يتقبلها الضمير دون معاناة.
أما أسلوب المترجم فهو على ما نعرف منه: عربي جميل ناصع، لا ابتذال فيه ولا إبهام. وقد وفق - على حد قوله - إلى إحلال المعاني الغربية في معان عربية. على أنا كنا نود أيضاً أن لو برئ من مثل هذه العبارة:(عالما لا يشق له غبار، ولا يصطلي له بنار) فليس هذا فيما نحسب معنى عربيا، بل هو دمنة بدوية.