لعل من فضول القول أن يتحدث متحدث عن الفراغ الذي ملأته ترجمة هذه القصة إلى العربية، فما أشد ما كانت تمتلئ قلوبنا أسفاً وحسرة حينما نرى الدنيا تتحدث عن بول بورجيه، ونسمع بأدبه وترى في قصته الخالدة مثلا من أروع المثل للقصص المفتن الدقيق، والأدب العالي الجميل؛ ثم نتلفت حولنا، فنرى مكانه في العربية خالياً إلا من كلمات عنه طائرة هنا وهناك، لا تمثل في ذهن القارئ العربي أدبه، ولا يمكن بطبيعة الحال أن يجد فيها ذلك المتاع الفني المهذب، أو يستشعر لقاءها تلك اللغة العقلية السامية التي يبتعثها في النفس أدب ذلك الأديب.
وقصة التلميذ التي بين يدينا هي، فيما يقول بعض نقاد الأدب الفرنسي، أروع ما كتب بول بورجيه وما نحسبهم أطلقوا هذا إطلاقاً إلا أنها خير ما يمثل مذهبه في كتابة القصة، فقد أبدع فيها أيما إبداع في عرض الدقائق النفسية عرضا فنياً خلابا، وتحليل الأمزجة العقلية المعقدة تحليلا عبقريا رائعا. حتى لا يكاد يفلت منه عنصر من العناصر التي تكون الشخصية، على ما فيها من غموض وإبهام وتصوير ذلك في صورة فنية منسقة مضطردة، لا يحس القارئ فيها بنبوة، ولا يلمح بها شيئا من الصنعة المتكلفة، أو التلفيق البغيض.
وهو في هذه القصة يعرض شخصية شاب من شبان القرن التاسع عشر، وهو من أعقد العصور فيما أحسب إذا اعتبرنا التأثيرات المختلفة، والنزعات المتباينة، والاتجاهات الغريبة التي تعرض لها الفكر الأوربي في تلك الفترة من الزمن، وأمتحن بها محنة ظهر أثرها في جميع مجالات الحياة، فلا يدع شيئاً مما يكون الشخصية حتى يسوقه في سياقة الغنى الرائع، فإذا أتم عرض شخصيته في صورة فيلسوف من فلاسفة ذلك القرن. قد فني في الفلسفة حتى صار صورة حية منها كر عليها كرة أخرى، فإذا بذلك كله آثار سطحية، وإذا بتلك الصبغة الفلسفية وهذه الصوفية العلمية لم تستطع أن تغير من كيانه الداخلي أو تنسخ ذلك الميراث الذي ورثته الإنسانية الحاضرة عن أناسيها الأولى. فما تزال له من تحت هذا الظاهر الوقور المتزن غرائزه الطبيعية الكامنة التي كان يبدو بادئ الرأي أنها ضعفت وتلاشت بتأثير تلك الحياة الفلسفية الخلابة، ولكنها لم تلبث أن وجدت في البيئة التي تلائمها: ورأت من حولها موضوعا لبروزها ونشاطها حتى ثارت ثورتها، وخرجت من مكمنها، ملونة ألواناً. . بتأثير المؤثرات المختلفة التي كونت صاحبها، ولا تزال تعمل