مراتب أنصاف الآلهة كما فعل الإغريق القدماء بأبطالهم
وإذا ما استقرت الأمة وتحضرت، وجنحت إلى السلم ولم تعد الحرب هي حالها الاجتماعية وضؤلت مكانة أبطال السلم من أنبياء ومصلحين ومشرعين وحكام وأرباب علم وفن، وهبطت قيمة القائد في الجيش قليلاً فلم يعد هو وحده المهيمن على مصائر الحرب بل صار للعدد والنظام والسلاح وغير ذلك حساب كبير؛ وبطل تصديق المتعلمين بواقع الأقاصيص المتخلفة عن عصور الأبطال؛ ولكن البطولة أعلى صورة من الصور خالدة، وعبادة الناس في كل العصور لها قائمة، بل إن احتفاء الأمة بأبطالها من أبرز دلائل حيويتها، كما أن من دلائل حيويتها حفول تاريخها بأسمائهم، بل يغالي كارليل ويزعم أن تاريخ الأمة هو تاريخ أبطالها، وتاريخ العالم إن هو إلا سير الأبطال
وتلك الأقاصيص المتخلفة عن عصور الأبطال إذا فقدت اعتقاد الناس بصدق كثير مما فيها فم فقدت إلا هيناً يسيراً، ولن تفقد ما يعج به من روائع الأوصاف وبدائع الصور وممتع الأخيلة وشائق المواقف والوقائع، والعرض الصادق لأحوال المجتمعات المتخلفة عنها تلك الآثار، والتأمل في طبائع الإنسان ومذاهبه في الحياة؛ فتظل تلك الأقاصيص تحفظ لنفاستها، وتظل كنزاً ثميناً لقرائح الأدباء وأخيلتهم، يطيب لهم الهيام في عالمها البعيد، وإجراء أفكارهم على ألسنة أشخاصها العظماء، واستعارة وقائعها وتشاهدها في التمثيل لوقائع عصورهم وأحداثها، وإبراز معانيهم وأغراضهم بالإشارة إلى حوادثها وملابساتها؛ وخير مثال لكل ذلك عصر الأبطال في بلاد الإغريق:
فعصر الأبطال في بلاد الإغريق، الذي أمتد زمن استقرارهم في شرق البحر الأبيض وتشربهم حضارته، هو أشهر عصور الأبطال وأسيرها ذكراً، لأن أشعار هوميروس قد خلدت روائع الصور لأحواله وعظائم أبطاله، وبدائع الأوصاف الشاملة لمعتقدات القوم وتصورهم لآلهتهم؛ حتى إذا ما انقضى ذلك العصر وبرزت اليونان في عالم التاريخ الواضح وطلعت في عصرها الذهبي وحلت الفلسفة محل الخرافة، وبطل الاعتقاد بكثير من أخبار الإلياذة والأوديسة، اتخذت أشعار الملاحم تلك مادة لضرب جديد من الأدب هو الدرامة، التي ظهرت لتسد حاجة ذلك العصر ما لم يعد يسده شعر الملاحم الذي يلتفت إلى الماضي ويتوفر عليه، ولا يعير الحاضر التفاتا