النادرة الحارة جداً، وإنما الكرب الذي يخيم على القلوب ويأخذ الأنفاس، النادرة الفاترة التي لا هي حارة ولا هي باردة، وكذلك الشعر الوسط، والغناء الوسط، وإنما الشأن في الحار جداً والبارد جداً. . .
ومتى سمعت حفظك الله بنادرة من كلام الأعراب، فإياك وأن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها، فإن أنت غيرتها بأن تلحن في إعرابها، وأخرجتها مخرج كلام المولدين والبلديين، خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، وملحة من ملح الحشوة والطغام، فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب أو أن تتخير لها لفظاً حسناً، أو تجعل لها من فيك مخرجاً سرياً، فان ذلك يفسد الإمتاع بها، وبخرجها من صورتها، ومن الذي أريدت له، ويذهب استطابتهم إياها، واستملاحهم لها. .)
وثمة ناحية لا أحب أن تغرب عن البال، وهي أن الإنسان وإن اجتمعت له ملكات التنادر، وتمت له مواهب الدعابة، وكان على علم بشرائط ذلك وضروبه، فأنه مع هذا كله لا يستطيع أن يكون له فبهذا الفن إلا إذا استوفى شرائط أخرى في هيئته ومخبره وإشاراته، وما هذه الشرائط في الواقع إلا أداة هذا الفن وآلته، فكما أنهم ارتضوا للخطيب نمطاً خاصاً في موقفه من اعتجار العمامة، وإصابة الإشارة، وجهارة الصوت، وجودة الإيقاع؛ وكما أنهم اشترطوا للمنادم بزة معلومة من الزي، وحسن الحديث ولطف المدخل، فكذلك رأوا من شرط المسامر والمنادر أن يكون خفيف الإشارة لطيف العبارة، ظريفاً رشيقاً، لبقاً رفيقاً، غير فدم ولا ثقيل، ولا عنيف ولا جهول، قد لبس لكل حالة لباسها، وركب لكل آلة أفراسها فطبق المفاصل، وأصاب الشواكل، ولقد تم للجاحظ كل هذا من مواهب الفن وملكاته، فبلغ فيه مبلغ العبقري النادر، وكان له في كل ضرب من ضروبه واتجاهاته، يتهكم تهكماً مراً لاذعاً، ويداعب مداعبة حلوة سائغة، ويهزل هزلاً هو مراح الأرواح، وأنس القلوب. وإنك لتجده في سائر كتاباته وأحاديثه يجمل القول بالنادرة، ويخلط الجد بالدعابة، فيجعله حسيباً إلى النفوس، سهلاً في التناول، وما أعرف للجاحظ ضريباً في تلك الناحية غير الكاتب الإنجليزي الماجن صاحب (الأفكار البليدة) فقد كان ذلك الكاتب خفيف الروح، قويم الفكر، له آراء صائبة، ولكنه كان يسوقها إلى القارئ مساق الدعابة والتفكه، وكان مشغوفاً بنقض ما تواضع عليه الناس من الفضائل والأخلاق، فيحسب الغرور فضيلة، والقناعة بلادة،