للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ويرى أن أهل الخير والطيبة على باطل، وإنه في ذلك كالجاحظ إذ كان يكتب في الأمور المتناقضة، والحالات المتضاربة، فيحتج لفضل السودان على البيضان، ويفتخر للرماد على المسك، وإن الشبه ليشتد بين الرجلين إذ يتحدث كل منهما عما يتصل بنفسه، ويمسه في شخصه، ولقد وقفت على فصل لذلك الكاتب يتكلم فيه عن الذاكرة، ويتنادر بضعف ذاكرته حتى بلغ به أنه كان ينسى أسمه في بعض الأحيان، فاذكرني ذلك بما كان من أمر الجاحظ إذ قال: نسيت كنيتي ثلاثة أيام، فسألت أهلي بماذا أكنى فقالوا لي: أبو عثمان!!

ولقد كان الجاحظ في كثير من قبح الشكل، ودمامة الخلقة، وقصر القامة، ونشوز التركيب. ولكنه كان على الرغم من ذلك كله طيب المحضر، شهي الحديث، خفيف الروح. ظريفاً في إشاراته، فكان بذلك ريحانة السامر، وأنس النادي، ومهوى الرؤساء وولاة الامر، يطلبونه لخفته، ويحرصون عليه لظرفه، ويغمرونه لذلك المرح الذي يفيضه عليهم. وأسوق إليك من ذلك طرفاً: حدث الرواة أن الجاحظ كان جانب الوزير أبن الزيات ينصره على القاضي ابن أبي دؤاد، وكان الشنآن مستحكماً بين الرجلين، فلما غضب المتوكل على أبن الزيات وقتله، وتم الظفر للقاضي، خاف الجاحظ على نفسه التلف، فطلب السلامة بالهرب، فلم يلبث أن قبض عليه، وحمل إلى ابن أبي دؤاد مغلول العنق، مقيد الرجلين، في قميص سمل. فلما وقف بين يديه، وأرسل القاضي في وقف بين يديه، أرسل القاضي في طلب حداد. فقال الجاحظ أعز الله القاضي، ليفك عني أو ليزيدني؟ قال: بل ليفك عنك! فلما جيء بالحداد، غمزه بعض أهل المجلس أن يعنف بساقه، ويطيل أمره قليلاً، فلطمه الجاحظ وقال: اعمل عمل شهر في يوم، وعمل يوم في ساعة، وعمل ساعة في لحظة، فإن الضرر على ساقي، وليس بجذع ولا ساجة. فضحك ابن أبي دؤاد وأهل المجلس منه. وقال ابن أبي دؤاد لمحمد ابن منصور وكان حاضراً: أنا أثق بظرفه، ولا أثق بدينه!! ثم قال يا غلام صر به إلى الحمام، وأمط عنه الأذى، فنزع منه الغل والقيد وأدخل الحمام وقد حمل إليه تخت من ثياب وطويلة من خف، ثم جاء فصدر المجلس، ثم أقبل عليه وقال: هات الآن حديثك يا أبا عثمان

وكم كنا نشتهي أن يصلنا ذلك الحديث الذي لا نشك في أنه كان عذباً شهياً يفيض بألوان من المرح، وفنون من الأنس، قد توثب فيه الجاحظ على طريقته من نادرة إلى نادرة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>