للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لقد كان مسرفاً جد الإسراف في التمتع بالحياة، وقد أساء لنفسه وجسده بهذا الإسراف، إسراف عنيف في لذته وصناعته كأنما كان طبيعة شاذة عنيفة في ميولها! فبكرت إليه الاوصاب وتناوشت جسمه العلل، فأراد أن يقاوم سلطانها فعكف على الخمر والمورفين والمخدرات وما لبث قليلاً حتى أثر ذلك في نفسه فولد فيها الاضطراب فتبدلت ألوان الحياة في وجهه، واستحال نورها ظلمة حالكة، وأخذت هذه الروح المرحة تشك في فرح الحياة وبدأت تحقر معانيها، وآزره على ذلك عقول أوى إليها كان تفكيرها متجهماً، فهو يحب شوبنهاور ممن وجدوا الحياة صفحة سوداء. ومنذ ذلك الحين إذا كل شيء في عينه زهواً باطلاً وجنوناً وعدما: (سعداء همة أولئك الذين لا يبصرون بسأم كبير: لا شيء يتبدل، ولا شيء يتحول، وأن كل شيء يغمره سأم طويل. . فكرة الإنسان ساكنة لا تتحرك وإنما تدور ضمن حدودها المتقاربة كذبابة في قارورة مسدودة) وهذا الضجر الذي عراه يظهر على صور مختلفة في ثنايا مواضيعه ورواياته؛ على أنه لم يجعل من هذه الإنسانية الكئيبة المحزنة صورة فتانة، وهو إذا لم يجل هذه الصورة بوجه صحيح فانه كان مفعماً شفقة وحناناً عليها، فهو في المواطن التي تهتز فيها الغرائز وتملك على المشاعر يبصر فضائل خفية وجمالاً متوارياً ونزوعاً عنيفاً متألماً نحو المثل الأعلى، تراه يعود إلى حديث من أحاديث الحياة حيثما كان مصدره، يسكب عليه الحنان والرقة، ويسبغ عليه الجمال؛ على أن فوزه الأدبي والثروة التي نالها قد بدلاه وأثرا في نفسه، فقد كان يغشى الأوساط الأرستقراطية ويتمتع بما تخلقه هذه الأوساط من الفنون والمرح العنيف في الحياة، فلم يعد يقنع بطريقته وفنه الأول في وصف الأشياء البسيطة وتصوير الحوادث القريبة. إنه نشط إلى ما تدعوه طبيعته الصافية إلى تحليل نفوس مركبة يستحوذ عليها القلق ويهديها الشقاء، ومن جملة هذه الأنفس نفسه. كتب قصة (قوى كالموت) و (قلبنا) و (بطرس) و (حنا) وما هي قصص تحليلية. هو يريد فيها أن يخفي التحليل بدلاً من نشره. وأشخاصها يريدون أن يخدعوا الناس أسرار نفوسهم بهذه الفصول والحركات التي يأتون بها. وأكثر قصصه تجري على طريقته، القصة الشخصية التي تدور حوادثها حول بطل هو صاحب القصة، تجري على طريقة الاعترافات التي تعبر عن الحياة الباطنة والتحليل الخلقي.

على أن موباسان كانت جهوده بارزة في تطور المدرسة الواقعية وهو في خير قصصه

<<  <  ج:
ص:  >  >>