وإن الفصل الذي قام بتمثيله عبد المطلب في هذه القصة لهو فصل ديني الغرض منه تبجيل شأن هذه المدينة المقدسة، كما يتضح لنا منه ما كانت عليه أسرة النبي من سطوة وثراء قبل انبثاق نور الإسلام بنصف قرن، (وحينما رد الله الحبشة عن مكة وأصابهم بما أصابهم به من النقمة، وعظمت العرب قريشاً وقالوا أهل الله قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوهم، وقالوا في ذلك أشعاراً يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة وما رد عن قريش من كيدهم وينسب ابن إسحاق الأبيات التالية إلى ابن الصلت بن ربيعة بن ربيعة الثقفي وينسبها كثيرون غيره لأمية بن أبي الصلت الشاعر المشهور وكان حنيفياً ومعاصر للنبي:
إن آيات ربنا ثاقبات ... لا يمارى فيهنّ إلاّ الكفورُ
خلق الليل والنّهار فكلٌّ ... مستبين حسابهُ مقدورُ
ثم يجلو النّهار رب رحيم ... بمهاةٍ شعاعها منشورُ
حبس الفيل بالمغمس حتّى ... ظلّ يحبو كأنه معقورُ
لازماً حلقة الجرَان كما قط ... طَرَ من صخر كبكب مجدورُ
حوله من ملوك كندة أبطا ... ل ملاويث في الحروب صقورُ
حلّفوه ثم أبذعروا جميعا ... كلهم عظم ساقه مكسورُ
كل دِينٍ يوم القيامة عند الل ... هِ إلاّ دين الحنيفة زور
ولقد أثارت غزوة الأحباش وهزيمتهم النعرة الوطنية في نفوس عرب الحجاز، هذه المشاعر التي لابد وأن يكون قد شاركهم فيها إلى حد بعيد البدو عامة، وظهرت روح جديدة خلال الحوادث التي تخللت الأربعين عاماً التي تلت هذا الحادث في جميع نواحي شبه الجزيرة، وينبغي أن نتذكر دائماً أن أسرة اللخميين في الحيرة قد انتهت بالنعمان الثالث الذي لقي مصرعه على يد خسرو وبرويز (٦٠٢ هـ، ٦٠٧ م) وكان قبل موته استودع أسلحته وبعض حاجاته عند هانئ شيخ عشيرة بني بكر وقد طلب خسرو هذه الودائع ولكن هانئاً رفض تسليمه إياها، فأرسل هذا جيشاً فارسياً عرمرماً إلى ذي قار وهو مكان قرب الكوفة يطفح بالمياه المتدفقة ولذلك كان ملجأ حصيناً لبني بكر أثناء فصل الجفاف، ونشبت هناك معركة حامية الوطيس انتهت بهزيمة الفرس هزيمة منكرة وكانت قوات العرب أكثر من قوات الفرس، وقد عد العرب هذه الموقعة فاتحة عصر جديد. من ذلك ما يروي أن