التي سبقت الميلاد بقرنين أو ثلاثة. كما أنهم يجعلون حرب الفرس واليونان رمزاً لذلك النضال قبل ذلك، وحرب العرب والروم ثم الفرنج رمزاً له في العصور الوسطى.
ومهما يكن من أمر هذا الرأي فأنا لا نستطيع أن نغضي عما فيه من الضعف والتعسف، فالحقيقة التي لا شك فيها هي أن أمم الأرض تتنازع وتتناضل فيما بينها. وان ما بقي بعد ذلك من التحديد ناشئ من الظروف والحوادث. ولقد كان نضال قرطاجة ورومة بغير شك من أروع مواقف النزاع العالمي، ولكن لم تكن رومة لتمثل عند ذلك شيئاً اسمه الغرب، ولم تكن قرطاجنة تمثل شيئاً اسمه الشرق، فقد كانت مصر عند ذلك تحت سلطان البطالسة العظام، وما كانت قرطاجنة إلا مدينة نامية تستولي على المال وتستخدمه في سبيل بسطة سلطانها بأن تسخر الجيوش لتنتصر لها في حروبها، وما كان لمثل هذه المدينة أن تكون زعيمة الشرق أو الآخذة بزمامه في نضال السيادة العالمية، بل لقد كانت مصر أجدر منها بذلك وأحرى
ويلوح لي أن المؤلف الفاضل لا يذهب مع أصحاب الرأي المتقدم فأنه علم أن قرطاجنة لها رحم بالساميين لم يجعلها ممثلة الشرق في نزاع الأجناس، بل نظر نظرة أخرى تختلف كل الاختلاف عن تلك الوجهة التي أشرنا إليها، فهو لا يتعصب لها ولا يراها تمثل مثلاً من أمثلة الشرق العليا، بل أنه لينظر إلى المثل العليا لروما على أنها أقرب إلى تمثيل مثل الإنسانية عامة، وهو يتحدث عن حوادث نضال قرطاجنة وروما حديث من يريد أن يتغلغل دون السطح ليتخذ من بحثه عظة وتنفعنا في حاضرنا فهو يريد أن يوجه أنظارنا إلى أن قرطاجنة قد فنيت لأنها كانتا جديرة بالفناء، وأن روما قد بقيت ونمت لأنها كانت جديرة بالبقاء والنمو، ثم هو يشير لنا وهو يسير في حديثه إلى الأسرار التي أهلت كلاً من المدينتين إلى مصيرها وجعلتها جديرة بما نالها.
خلفت الأساطير قصتين عن منشأ المدينتين المتناضلتين، وما أحرى هاتين الأسطورتين أن تكونا مختصرة لتاريخهما. فروما تنشأ في العراء وتغذوها الوحوش ثم ترويها الدماء ولكنها ترفض الاستكانة إلى الدعة ويطلب أهلها العيش في ظلال المكارم، فلا تزال مثلها العليا الخشونة والقوة والقسوة. وقرطاجنة تنشأ هرباً من مطامع الطامعين لتنفرد في مأمن تتمتع في برغد العيش وذكريات السعادة ولكنها لا تلبث أن تحرق نفسها دفاعاً لمطامع جديدة