مهارته الحاذقة في استخلاص الصميم الرائع من حقائق الحياة الخالدة، وتعمقه في تحليل كل ذلك تحليلا صادقاً كل الصدق، دقيقاً بارعاً إلى ابعد حدود الدقة والبراعة، لو شئت أن اضرب لك مثلا على هذا لما تخيرت إلا هذا الموقف. وانك إذ تسمع (محسن) يقول هاتين الكلمتين في ذلك الوقت، تبرز أمام عينيك فجأة صورة ذلك المنكوب الحزين، ذلك اليائس كل اليأس، المكروب كل الكرب، ذلك الذي تألبت عليه النوب واصطلحت عليه الأرزاء، فيرفع رأسه في هدوء وتلمح على وجهه ما يروعك من آيات القنوط وتحس ما يجيش به صدره من الانفعالات ومختلف عوامل النفس الثائرة كأنها الأتون يصهر الحديد أو البركان يقذف بالحمم، ثم لا تسمع منه إلا كلمة (يا رب. . .) وعليها مسحة الإيمان الذي لا حد له ولا وصف يوصف به، وانك لمأخوذ بسحر هذه الكلمة، مأخوذ بروعتها في بساطتها وقصرها، وكأنها تعويذة فيها من الروعة والجلال ما يأخذ على الفكر مسالك الفكر، ولو استمعت إلى شكوى الناس طرا من عهد آدم إلى اليوم لما كان لذلك في نفسك بعض هذا التأثير أو بعض هذا السحر المبين.
وتلك ناحية من نواحي هذا الكاتب القدير توفيق الحكيم لا تخطئها في (عودة الروح).
وأحب لك أن تقرأ الفصل الثالث عشر من القصة عند وداع محسن لسنية فهو من أحسن فصول القصة، وهذا الموقف بين الاثنين من أروع المواقف واصدقها وأدقها٠ تصويراً، على أني لا أحب أن تفهم أني أفضل مشهدا في القصة على مشهد ولا فصلا فيها على فصل، فهي كلها قوية رائعة، وفيها كلها تلمس قوة الحبكة ودقة التصوير ومهارة الكاتب وخياله الخصب المؤاتي، وذلك التلوين العجيب لشخصيات أفراد القصة في مواقفهم العديدة المتباينة، ودونك الفصل الرابع والثلاثين عندما يتجه نظر سنية لقهوة الحاج شحاتة وتتأمل طويلا في مصطفى وما يختلج في قلبها من الانفعالات المختلفة المتضاربة، فليس أبلغ من قوة التحليل في هذا الفصل لقلب العذراء الخلي عندما يداخله الحب وينفعل بالجو الذي يحيطه في أول خطاه في هذه التجربة القاسية، فهو راض حينا، ساخط حينا آخر تتجاذبه عوامل الأمل واليأس، وتلمح كل هذا في الحركة المضطربة، وفي المفاجأة التي لا تترجم عنها الألفاظ، ولكن دقات القلب ونظرات العين ووجوم الوجه، وآية هذا الفصل أسطره الأخيرة التي تقدم لك لوحة من الفن بارعة كل البراعة صادقة كل الصدق، دقيقة أبلغ