للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كأنما هذا ليس قلبا وإنما ركب لي الله سبحانه في مكانه لعبة من لعب (اليويو) التي شاعت في الزمان الأخير. وأحيانا اشعر بأن حولي فراغا وأحس شيئا من اللهفة وقليلا من الشوق، ولكنه شوق هادئ ولهفة محتمله لا تثقل على النفس ولا يشقى بها القلب ولا يسود من جرائها العيش. وشبيه بذلك أن يشتهي الإنسان أن يرى شريطا من أشرطة السينما سمع عنه ثناء أو أن يشتاق أن يطوف حول الأرض أو يشاهد معرضاً كبيراً في بلد ناء. ولا أضن أن هذا يعد حبا بالمعنى القديم أو الحديث

وللسامع العذر إذا تساءل: (كيف إذن كنت تقول الشعر في شبابك وتذكر فيه الحب ولواعجه وصباباته وما تزعم أنك كنت تعانيه من السهد والضنى أو تريقه من الدموع إلى آخر ذلك) والسؤال طبيعي ولكن الجواب عنه حاضر، ولولا عادة الصدق التي اكتسبتها في الأيام الأخيرة لعز الجواب. والجواب يعرفه القراء فقد سقته في فصل سابق عن الحب نشرته لي (الرسالة) وخلاصته أني أوحيت الحب إلى نفسي

ومن الجرأة أن أزعم أن الناس كلهم كذلك، ولكني أقول إن نشوة الحب تطول عند الناس بفضل الإيحاء المستفاد من تأثير الجماعة والعرف. ولو خلت الكتب مما نقرأه في وصف الحب وأثره في النفس وألف المرء أن يرى الناس يحبون حبا لا يخرج بالنفس عن الاتزان لصار الحب هادئا فاترا كالصداقة. وأحسب أن الفرق بيني وبين غيري ليس هو أني شاذ وهم طبيعيون، بل إني تأثرت بإيحاء الجماعة وإيحاء الكتب وأنا عارف بذلك مدرك له متفطن لحقيقته، وأن الأكثرين يتأثرون على هذا النحو تماما ولكنهم لا يدركون أن في الأمر إيحاء ولا يفطنون للحقيقة فيه. والحياة تقوم - كما لا أحتاج أن أبين - على الإيحاء، وكل امرئ يوحي إلى كل امرئ آخر ويستوحي منه، بل نحن نستوحي الأشياء كما نتلقى الإيحاء من الناس.

ويخيل إلي أن الحب اسمه غلط، فإنه يبدو لي أن هذه العاطفة التي نسميها الحب خالية في الحقيقة من الحب والعلاقة فيها بين الجنسين ليست علاقة مودة. وهذا كلام قد يبدو متناقضا ولكني أظنه صحيحاً. ذلك أن الحب ضرب من الجوع؛ ولا تقولوا إنه جوع معنوي فإن هذا يكون تخريفا، إذ ليس ثم فيما يتعلق بالإنسان أو الحياة شيء معنوي. والإنسان مادة وكل ما في الحياة من المادة وإلى المادة، فلندع هذه الخيالات ولنجتزئ بالحقائق فإن أرضها

<<  <  ج:
ص:  >  >>