للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(إذا بليتم فاستتروا) فكانت معاقرة الخمر على قارعة الطريق ممنوعة لا بحكم القانون بل بقضاء العرف، وكان الشبان مثلا يستحيون أن يجلسوا في القهوات، وكان النساء يتحجبن ويحرصن على ستر زينتهن، ولم يكن اتصال شاب بفتاة من الهينات، ثم جاءت الحرب فرجت الدنيا وزلزلت قواعد الحياة فيها وانتشر التعليم وشاع الاطلاع على الآراء الحديثة في الأمور الجنسية، وهدمت الهبة القومية المصرية حواجز كثيرة وفي جملتها ما كان يفصل الجنسين ويفرق بينهما، وصار الناس - شيئا فشيئا - يلهجون بذكر الحب ويتناوله في مجالسهم وفي كتاباتهم تناولا هو أقرب ما يكون إلى البحث العلمي، ولم يعد الشبان - بسبب نشأتهم والجو الجديد المحيط بهم ينظرون إلى الحب وما يتعلق به كما كان آباؤهم يفعلون أو يرون في الأمر موجبا للحماسة أو داعيا للخجل أو باعثا على الاستحياء؛ وجاء التطور الاجتماعي ولاسيما فيما يتعلق بإمكان ضبط النسل هادما لحاجز منيع بين الرجل والمرأة. وفي الأمثال إن الشجرة تعرف من ثمارها؛ فإذا لم تكن ثم ثمرة فأين الشجرة؟ وضعف العرف وتفككت قيوده وحصل التمرد عليه في سبيل الحرية كما حصل التمرد على كل قيد آخر. ومن أخطار الحرية في بادئ الأمر أن الناس يطلبون الحقوق وينسون الواجبات التي تقابل الحقوق. والتوازن لا يعود إلا ببطء وبعد التجارب الطويلة والمعاناة المرة والدروس العلمية الأليمة. وبذلك فقد الحب الهالة التي كانت حوله وسلب القداسة القديمة، وصار على الأيام أمرا عاديا، وهوى إلى مرتبة الرقص والألعاب الرياضية، لأن وطأة العرف والتقاليد ضعفت وخفت جدا حتى ليمكن أن يقال إنها غير محسوسة في الأغلب والأعم. وفي مثل هذه الأحوال التي يعظم فيها الترخص والتسامح يندر الحب القوي العميق الطويل العمر، وقد يكون هذا الحال هو بعض السر في ركود الشعر إلى حد كبير في هذه الفترة من حياتنا الأدبية

إبراهيم عبد القادر المازني

<<  <  ج:
ص:  >  >>