العصبي كفيلان بتوضيح كل أعمال الفكر السامية. لهذا نراهم يصرحون بأنه (لا تفكير بدون الفسفور) وأن (المخ يهضم الاحساسات بشكل ما ويفرز عصارة التفكير إفرازاً عضوياً) وما كان الطب متقدما عند اليونان تقدمه في التاريخ الحديث، ولا كانت وظائف الأعضاء واضحة وضوحها اليوم
ومن الغريب أن ابن سينا الذي تقبل كل مبادئ الطب وعلم وظائف الأعضاء اليونانيين قد عنى عناية خاصة بالبرهنة على وجود النفس وإثبات أنها تغاير البدن. ولعل ذلك راجع إلى أن بعض الماديين قد غالوا مغالاة الماديين المحدثين وتطرفوا تطرفهم، فوحدوا بين النفس والجسم أو أنكروا وجودها رأسا واعتبروا الجسم مبعث الظواهر العقلية على اختلافها. فلم ير بداً من أن يرد عليهم ويبين خطأهم، وقد أشار إليهم صراحة في إحدى رسائله. وفوق هذا فالمنهج القويم في رأيه يقتضي أن يبدأ الباحث بإثبات وجود النفس ثم ينتقل بعد هذا إلى شرح وظائفها وأعمالها. يقول:(من رام وصف شيء من الأشياء قبل أن يتقدم فيثبت أولا أنيَّته (يعني وجوده) فهو معدود عند الحكماء ممن زاغ عن محجة الإيضاح. فواجب علينا أن نتجرد أولا لإثبات وجود القوى النفسانية قبل الشروع في تحديد كل واحدة منها وإيضاح القول فيها
وهو في برهنته على هذا الوجود يسلك سبلا عدة ويستخدم وسائل متفرقة. فليلجأ تارة إلى العرف العام والاستعمالات الدارجة مستمدا منها بعض الملاحظات الدالة على أننا نؤمن بوجود حقيقة فينا تخالف الجسم. ويركن تارة أخرى إلى بعض القضايا الفلسفية المسلمة من القدامى ليستعين بها على تحقيق هذه الغاية. ويبتكر أحيانا فروضا وتعليلات دقيقة تقربه من بعض الفلاسفة وعلماء النفس المحدثين. فيلاحظ أن الإنسان إذا كان يتحدث عن شخصه أو يخاطب غيره فإنما يعني بذلك النفس لا الجسم. فحين تقول: أنا خرجت أو أنا نمت لا يخطر ببالك حركة رجليك ولا إغماض عينيك، بل ترمي إلى حقيقتك وكل شخصيتك. وقد صاغ ابن سينا هذه الملاحظة على الصورة الآتية (إن الإنسان إذا كان منهمكا في أمر من الأمور فإنه يستحضر ذاته حتى أنه يقول إني فعلت كذا أو فعلت كذا؛ وفي مثل هذه الحالة يكون غافلا عن جميع أجزاء بدنه. والمعلوم بالفعل غير ما هو مغفول عنه، فذات الإنسان مغايرة للبدن. وأنا لنلمح في ثنايا هذه الملاحظة فكرة الشخصية أو فكرة